تبدأ الأم البديلة بالتودد للأطفال وإبداء الرعاية، ثم تتدرج إلى إزاحة حقل النفوذ والولاية المتمثل في الأم الحقيقية أو صورتها، ثم تنتقل إلى المرحلة الثالثة وفيها الاستيلاء على حقل النفوذ تماماً
سؤال ظل يراودني طيلة حياتي، ولكني كنت مسلِمة به، كباقي خلق الله في بداية الأمر. وبعد قراءات عدة ألح علي السؤال بشكل مقلق حول: لماذا زوجة الأب دائما مكروهة من أبناء زوجها؟! ثم هل تكره أولاد زوجها؟ وهل هي علاقة كراهية أم مصالح؟ ومما يزيد الحيرة والتساؤل هو إظهار زوجات الآباء التودد للأبناء في أغلب الأحيان! فمنذ أن كنا أطفالاً ونحن نتلقى حواديت مشينة لصورة زوجة الأب في أدبنا الشعبي، وأيضا حكايات ألف ليلة وليلة! ولا يقتصر ذلك على الأدب العربي، وإنما الأدب العالمي، كما في حكايات سندريلا وسنوهوايت والأقزام السبعة؛ ولم ينج الأدب العالمي للكبار من ذلك، كما في رواية ميديا للكاتب اليوناني يوربيدس والتي ألبست عروس زوجها في يوم زفافها ثوبا سحريا - نسجته بأيديها- يذيب لحمها ثم ذبحت أولاده وأطعمتهم لزوجها دون أن يعلم. صور بشعة لصورة زوجة الأب. فهل هي غيرة على زوجها من أولاده؟ وإن كانت فلماذا لا تغير من أولادها عليه؟! قضية هامة تحتاج إلى تحليل؛ ففي دراسة حديثة أعدتها جامعة برينستون نشرت مؤخراً في صحيفة نيويورك تايمز، كما ذكرت صحيفة الشرق الأوسط أن الأطفال الذين ربتهم زوجات آبائهم كانوا عرضة لقلة الرعاية الصحية الجيدة والتعليم والمصاريف التي تنفق على تغذيتهم، مقارنة مع الأطفال الذين ربتهم أمهاتهم البيولوجية، وتقول: إنه مستحيل أن تحب زوجة الأب الأبناء كأمهم الطبيعية، ولن يتسع المقال لطرح جوانب هذه الإشكالية، فهي معروفة، وإنما ما يهمنا هو الوقوف على كنهها وإلى جذورها بشيء من التحليل النقدي الموضوعي.
سنتعرض للبنية الفعلية للأسرة للوصول إلى الدوافع والأفعال عن طريق ذلك البناء الهرمي للأسرة وعلى رأسه الأب الذي يمثل السلطة المركزية، بينما تحتل أحد ضلعيه الأم الحقيقية حقل الولاية أو حقل النفوذ أما الضلع الثاني فتمثله الأم البديلة زوجة الأب وتمثل حقل الإزاحة أما القاعدة فتتكون من أبناء حقل النفوذ وحقل الإزاحة، يفصل بينهما خط الاتزان البنيوي العمودي إلى الأب قمة السلطة المركزية. فالأم الحقيقية وأبناؤها في جهة من هذا المثلث والأم البديلة وأبناؤها في الجهة المقابلة من هذا البناء الهرمي.
وبناء على ذلك لا يحظى أولاد الأم الحقيقية بالرعاية الكاملة نتيجة أنه حدث هناك تحرك من حقل الإزاحة الأم البديلة نحو إزاحة الأم الحقيقية والاستيلاء على حقل النفوذ. والأب هنا هو السلطة المركزية التي تعمل على إتاحة فرصة الإزاحة أو حقل الولاية للأم الحقيقية أو لصورتها؛ وذلك الاستيلاء يتم عن طريق ثلاث مراحل:
1- التوفيق بين الوافد والموروث. 2- الإزاحة. 3- الاحتواء.
وذلك كالآتي:
تبدأ الأم البديلة عند بداية الوفود على البنية الأسرية بعملية التوفيق. فتبدأ بالتودد للأطفال وإبداء الرعاية والعناية والخوف والشفقة؛ وهو تصرف افتعالي. ثم تتدرج إلى النقطة الثانية، وهي نقطة الإزاحة (إزاحة حقل النفوذ والولاية) الأول والمتمثل في الأم الحقيقية أو صورتها إن كانت غائبة. ثم المرحلة الثالثة، وهي مرحلة الاحتواء. وفي هذه المرحلة يكون الاستيلاء على حقل النفوذ تماماً.
ومن خلال هذه الدوافع تنبع مشاعر الكراهية داخل البنية الأسرية من الأبناء لزوجات آبائهم، لأنهم يستشعرون هذه الإزاحة لحقل النفوذ المتمثل في أمهم الحقيقية أو في صورتها إن كانت غائبة عن الحقل الأسري! أما الأم البديلة (حقل الإزاحة) فليس لديها مشاعر الكراهية بقدر ما هي تحاول السيطرة على حقل النفوذ نتيجة الخوف من عدم الاستيلاء على هذا الحقل! إذ إنها تريد إزاحة الأم الحقيقية التي تعمل على الضغط على الذهنية الباطنة لديها، فيقع الأبناء في حقل الولاية مكان الأم، مما يحملها على إزاحة هذه الصورة في شخصهم، وخاصة في غياب الأم الحقيقية. وهذه الإشكالية تبدأ بعد عملية الإنجاب للأم البديلة؛ لأنها لم تعد تلعب دور الإزاحة لحقل النفوذ (الأم الحقيقية) فحسب، وإنما إزاحة حقل نفوذ الأبناء للأم الحقيقية، ليحتل أبناؤها فيما بعد حقل نفوذ آخر داخل هذه البنية للأسرة!
وبهذا التحليل لبنية الأسرة تتضح لنا كل الدوافع للأفعال التي ترتكبها الأم البديلة، وتتضح لنا مشاعر الأبناء ومشاعر الأم البديلة، فالكراهية تجتاح مشاعر الأبناء، وكذلك الخوف والرغبة في النفوذ والولاية تسيطر على الأم البديلة التي لا تصل إلى مرحلة الكراهية تجاه الأبناء. وبذلك تكون العلاقة، كراهية من الأبناء؛ وحب الذات والتسلط للأم البديلة بين هذين الطرفين. الأب هنا هو السلطة المركزية كما أسلفنا، وهو من يستطيع عدم إتاحة فرصة الإزاحة، إلا أنه لا يفعل ذلك خوفا على انهيار البنية الأسرية.
وبالتالي نجد أن عنصر الخوف هو أساس هذه الإشكالية كما يلي:
1- خوف الأب من انهيار البنية الأسرية.
2- خوف الأم البديلة من عدم التمكن من حقل النفوذ،
3- خوف الأبناء من إزاحة صورة الأم المتمثل في حقل النفوذ الذي يخصهم.
هذا هو التحليل البنيوي لتكوين الأسرة، نتجت لنا حقيقة وأسباب ظاهرة علاقة مشوبة ومحمومة بين الأبناء وزوجات الآباء والإجابات على تلك الأسئلة المؤرقة والمطروحة سلفا. وبطبيعة الحال فكل هذه الدوافع والأفعال هي طبيعة بشرية، إلا أن عنصر الخوف هو ما يزيد من حدتها، فالخوف متجذر في النفس البشرية؛ وهناك عوامل بيئية وتربوية تعمل على تفاوت حدة هذه الدوافع والأفعال من إنسان إلى آخر!
وبذلك فعلى الآباء أن يدركوا أن هذه خصائص ومحاور وطبيعة العلاقة بين أولادهم وزوجتاهم، مهما اختلفت الأمور، لأن هذه المعايير التي عملنا على القياس بها هي معايير علمية تكشف جميع العلاقات البشرية بحسب المعيار النقدي. ومعذرة إذا كان الأسلوب جافا بعض الشيء، بالرغم من محاولتي شرحه وتبسيطه، إلا أنني آثرت أن يتفهم قرائي الكرام كنه هذه الإشكالية المؤرقة دائما لأطفالنا مهما حاولنا تفاديها. وعلى الأب أن يعي حتمية هذه الدوافع والأفعال ويعمل بقدر الإمكان على السيطرة على سلطة المركز، فهو قمة البناء الهرمي وهو من يستطيع تحجيم إزاحة حقل النفوذ القديم والاستيلاء عليه، إذا كان مضطرا لإحضار زوجة الأب، وإن أمكن أن يتفادى ذلك قدر المستطاع حفاظا على سلامة الأجيال القادمة نفسيا وصحيا.