الشباب هم الحياة وهم المستقبل وهم الأمل بعد الله، وحقهم علينا أن نبين لهم أن فطرتهم تقتضي وجود ثقافة التطوع التي يجب أن تكون لنا الريادة فيها

أولاً ومن باب الموضوعية والحديث بالعلم يجب أن تتم الإشادة بجهود إمارة منطقة مكة المكرمة في تنظيم عمليات التطوع الذي بدأته وأسندته إلى جمعية متخصصة يرأسها ويعمل فيها شباب في عمر الورود بإشراف ومتابعة دقيقة من أمير المنطقة شخصياً ومشاركة جهات حكومية وخاصة.. إلى جانب 7 جمعيات تعنى بالشباب وتعليمهم وتدريبهم وإشغال وقت فراغهم وتوجيه طاقاتهم فيما ينفع الوطن وينفعهم..ومبررات الاهتمام بالشباب كثيرة من أهمها أنهم يشكلون أكثر من 70% من عدد السكان وألا تقدم ولا تطوير لأي أمة أو دولة دون شباب متعلم متدرب يكن الحب والولاء لبلاده..ولنا في تاريخنا الإسلامي أسوة حسنة، فاختيار أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ المثنى بن حارثه وعكرمة بن أبي جهل في قيادة سرايا الجيوش، والأمثلة عبر التاريخ وحتى في تاريخنا السعودي المعاصر كثيرة.. المبرر العام الآن وآنذاك هو وضع الشباب موضع التحديات الإيجابية وتجنيبهم التحديات السلبية.. والتحديات الإيجابية المقصودة هي إرادة التغيير نحو الأفضل وإطلاق ملكات الشباب نحو التغيير الذي يؤدي إلى الارتقاء بالوطن تحت قيادة واعية مستنيرة مستثمرين قوة أذهانهم وفتوتهم لتميزهم بحدة الذهن الذي يقود إلى التفكير الناقد النافذ.. عند الشباب قدرة على التفكير المرن ولاستعدادهم لمواجهة تحديات التغيير الإيجابية، والعزم والإرادة في التغيير يتضحان في البذل.
وفيما يتعلق بموضوعنا اليوم الخاص بالعمل التطوعي فإن لدى الشباب توجها واستعدادا نحوالعمل التطوعي بدون عائد مادي أو معيشي، ويتعلق الشباب بالمثل ويؤمنون ويبذلون الوقت والجهد والنفس عند الحاجة.. هذه خصائص طبيعية إذا هيأ لها المجتمع البيئة الصالحة تعمل العمل الصحيح. والمقصود هنا أن تكون ثقافة تعمل تحت تنظيم ..وبمراجعة بعض تجارب العمل التطوعي كان الشباب في أوروبا قبيل الحرب العالمية الثانية يتركون عملهم وعوائلهم ويلتحقون بالأعمال التطوعية، وجاء الشباب للاستعداد للموت في سبيل مبدئهم لمحاربة الفاشية والدكتاتورية وحُسِب لأوروبا ذلك، وكان موضع فخر لها لأنه يكشف حقبة من تاريخها تعبر عن صورة عظيمة من البذل والتطوع.
هناك أمثلة كبيرة كثيرة وعديدة عبر التاريخ.. والتاريخ القريب كشف أمراً في غاية الأهمية وهو أنه عندما تستمثر طاقات الشباب وتوجه في العمل التطوعي تكون النتائج مذهلة حتى ولو بلغ الأمر التضحية بأرواحهم.. فهم قادرون على العطاء وقادرون على تحمل البرد والحر وأقسى ظروف الحياة.. والشباب لديهم خاصية التعلق بالقيم والمثل.
إمكانات ثقافاتنا هائلة.. الإسلام لديه من الإمكانات ما يمكن أن يصنع لنا مكانة لا تقدمنا فقط ولكن تقدم البشرية أيضاً كلها ..النضج والعدل والمساواة والحرية..وهذه أيضاً موجودة في العالم الغربي إلا أن تميزنا عن العالم الغربي أنه بالرغم من تقدمه الرقمي التكنولوجي إلا أنه أوجد أزمات.. تتعلق بالروح لأنه يفقد الإيمان المؤسَسَ على العقل واستبدله بإيمان مبني على الخرافات.. وأزمة في السياسة التي بناها على المصالح وأزمة في الاقتصاد التي فشل فيها الجمع بين المصلحة المجتمعية والمصلحة الفردية.. وبناها على المصلحة الأخيرة.. ولا مجال للتوسع في ذلك لضيق المساحة وخروجه عن السياق.. إلا أن الواقع يفرض علينا الحديث عن حسنات للحضارة الغربية تفوقت فيها على الحضارة الإسلامية، وهي أولى من حضارة الغرب في تبني أفضل برامج عمل الشباب التطوعي ببساطة لأن الحقيقة هي أن الإسلام أثبت للتاريخ وسيثبت المحاكمة المنطقية..ومن ذلك التفوق التكنولوجي والتفوق في العمل التطوعي.. فمن حسنات الثقافة المعاصرة والثقافة الغربية أو الحضارة الغربية في المجال التطوعي اهتمامها بالجانب الإنساني واهتمامها بالتطوع..ففي محاضرة لوزير الشؤون الاجتماعية عام 1428هـ قارن الوزير بين المؤسسات الخيرية في دول العالم وذكر أن في أميركا لكل 163 فردا مؤسسة خيرية، وفي فرنسا لكل 106 أفراد، وفي ألمانيا لكل 102 فرد، وفي مصر لكل 500 فرد، وفي المملكة جمعية لكل 75.000 فرد.. لدينا في المملكة العربية السعودية 600 جمعية فقط ..وفي أميركا من كل شخصين واحد يتطوع بـ5 ساعات عمل في الأسبوع.. 150 مليون ساعة في اليوم تعني أكثر من عمل كل موظفي الحكومة الأميركية.. وهذا فارق هائل بيننا وبين العالم المتقدم.. ولا أظنه يدل على قلة الإحساس الإنساني لدينا عن الشعوب الأخرى، فتاريخنا الإسلامي يحدثنا أن الحضارة الإسلامية كانت مبنية على العمل التطوعي.. فالدولة كانت تهتم بالأمن والقضاء فقط.. أما الأمور المجتمعية من المعابد والمدارس والمكتبات وغيرها فكانت مبنية على العمل التطوعي.. وهناك اختلاف جوهري عن العالم الغربي يجب استثماره في العالم الإسلامي وبلادنا أكبر ممثلة له.. وهذا العامل هو أن البذل والعطاء والتطوع فطرة فطر الله المسلم عليها..ومن السهل جداً أن يستجيب المرء لما فطر عليه.. الحضارة الإسلامية حضارة إنسانية.. والمسلم يحب البذل ويحب العطاء.. وهنا نقف ونتأمل ثم نقرر أن أوجب الواجبات أن نعمل كل ما في وسعنا ليعرف الشباب حقيقة حضارته..وأن ينتبه لها ويقدر قيمتها وقيمة القدرات التي يختزنها وفيم يجب أن يبذلها.. يجب أن نستفيد من الحضارة الغربية لكن لا ننبهر بها.. لدينا من المثل والمبادئ ما يمكننا استثماره لإطلاق قدرات الشباب واستثمار فتوتهم وتوظيف فطرتهم لخدمة بلادهم وأمتهم بخطط مدروسة وإشراف واع وعمل منظم.. الشباب هم الحياة وهم المستقبل وهم الأمل بعد الله.. وحقهم علينا أن نبين لهم أن فطرتهم تقتضي وجود ثقافة التطوع التي يجب أن تكون لنا الريادة فيها ونبز بذلك أي حضارة أخرى وأي مجتمع آخر.. ولا يمكن بأي حال ..بل ليس من المنطق أن يكون شبانا مفطورين على العطاء والبذل والعمل التطوعي ثم يتفوق مجتمع آخر علينا.. يجب ألا يستمر ذلك.... وأعود للقول إن هناك تجارب مميزة في بعض مناطقنا وخصوصاً ما بدأته منطقة مكة المكرمة من جهود في هذا الاتجاه، نأمل أن تحتضن الجهات المعنية هذه الجهود وتعمم وتوسع هذه الجهود في طول بلادنا وعرضها بعيداً عن الروتين القاتل واللجان (طيبة الذكر) التي أصبحت عقبة أمام كل عمل نوعي وفكرة جادة. العمل التطوعي فطرة والشباب مجبولون على ما فطروا عليه، وهذا أمر يجعل المهمة يسيرة وسريعة التطبيق ليُرى أثرها على أرض الواقع شباب يعتز بهم الوطن ويعتزون به يعملون.