تماثل الأسباب الأخرى التي ينشأ عنها التشكك بالعلوم الحديثة في ثقافتنا العربية المعاصرة الأسباب التي تنشأ عنها المواقف المتشككة في الغرب. يضاف إلى ذلك أن كثيرا من الأفكار المغلوطة عن منجزات العلم الحديث تنشأ عن الترجمة الانتقائية والخاطئة والجزئية للنظريات العلمية
يتجدد هذه الأيام التشككُ الموسمي المعهود في الوسائل العلمية الحديثة لتحديد بداية شهر رمضان المبارك. ولمثل هذا التشكك في العلوم الحديثة أسبابه، وهو معروف في المجتمعات كلها، ولا يستثنى منها الدول الغربية المتقدمة علميا. ومما يشهد بذلك تقرير نشرته صحيفة الشرق الأوسط (21/8/1431هـ) عن جهل كثير من الأمريكيين بالعلم والتقنية والقضايا العلمية.
ويورد التقرير ما يقوله مؤلفا كتاب صدر العام الماضي بعنوان أمريكا غير العلمية: كيف تهدد الأمية العلمية مستقبلنا؟ من أن المجتمع الأمريكي يعاني من أعراض الأمية العلمية، خاصة بعد انحسار موقع العلم في السنوات الأخيرة، على الرغم من أن ملكة الإبداع والابتكار والتجديد لا تزال قوية فيه. ويُرجع التقريرُ هذا المشكل إلى ضعف التواصل بين العلماء والمجتمع، لأن كثرة من المشتغلين (بالعلم) لا يعرفون كيفية شرح هذه الأهمية للمجتمع وللعامة.
ومن أهم الأسباب التي لم يذكرها التقرير تأثير المد المسيحي الأصولي الذي يعادي كثيرا من النظريات العلمية انطلاقا من التأويلات الحرفية للإنجيل.
ويكمن الفارق بيننا وبين الغربيين في نظرهم إلى هذا الوضع أنه يمثل مشكلة مزعجة تتطلب حلولا. بل يقابَل المعترضون على المنجزات العلمية الحديثة بالسخرية دائما. ويأتي التشكيك في نظرية التطور وعلوم الفلك في مقدمة هذه القضايا.
ومن أمثلة التشكيك بالعلوم في الغرب التي يُسخر منها ما أورده الفيلسوف الإيطالي المعروف إمبرتو إيكو في مقال بعنوان من كروية الأرض إلى نظرية التطور (الاتحاد الإماراتية، 13/2/2010م) قال فيه إن العديد من مؤيّدي النظريّة، وليس معارضيها فقط، يملكون أفكاراً ساذجةً ومشوّشة حول التطوّر.
وأرجع ذلك إلى أن العلم يتحدى دائماً الرأي العام الذي غالباً ما يكون أقل تقدّماً مما قد يعتقده الناس، (فنحن) لا نزال نتشبّث ببعض التصورات الساذجة، فنقول بزهوّ الشمس تشرق وتغيب أو إنّها في كبد السماء.
وكشف تقرير أعدّ في عام 1982 في فرنسا أن واحداً من أصل ثلاثة أشخاص يعتقد أن الشمس تدور حول الأرض. وكتب أوليفيي جوستافر مقالا، نشر في أبريل 2009 عن الذين ينكرون أن الأرض كرويّة الشكل وأنّها تدور حول الشمس. ومنهم أبي متلاني، الذي برهن في عام 1842 أن قطر الشمس بالكاد يناهز 32 سنتيمترا . . . إلى فكتور ماروتشي الذي قال بأن الأرض مسطحة، وإن كورسيكا تقع في وسطها. وفي القرن التاسع عشر، استمر الجنون بالمضي قدماً. وفي سنة 1907 أصدر ليون ماكس كتاب محاولة لعقلنة العلوم الإخبارية من خلال ناشر علمي مسؤول، وفي عام 1936 نشر المدعو ب. رايوفيتش كتاباً بعنوان الأرض لا تدور برهن فيه أن الشمس أصغر من الأرض، ولكنها أكبر من القمر (في حين أبقى أبي بوهيري على العكس في عام 1815). أمّا في سنة 1935 فقام جوستاف بليزان الذي وصف نفسه بأنّه تلميذ سابق في مدرسة الفنون التطبيقية بإصدار كتاب بعنوان أحقاً تدور الأرض؟. ومؤخراً في عام 1965 ألّف موريس أوليفي، الذي يعتبر نفسه أيضاً تلميذاً سابقاً في مدرسة الفنون التطبيقيّة، كتاباً حول جمود الأرض.
وقد ذكر جوستافر في مقاله كتاباً واحداً لمؤلف غير فرنسي، وهو صاموئيل بيرلي روبوثام الكاتب البريطاني الذي يعتقد أن الأرض إسطوانة تقع على بعد 650 كيلومترا من الشمس، وأن القطب الشمالي موجود في وسطها. وقد نشر كتاب روبوثام المعنوَن علم الفلك البحثي: الأرض ليست الكرة الأرضيّة بشكل ملخص في عام 1849، بيد أنّه وُسع ليصل إلى 430 صفحة. وقد أدى هذا الكتاب إلى نشوء المجتمع البحثي العالمي الذي استمر حتى الحرب العالميّة الأولى.
وفي عام 1956 أنشأ صموئيل شنتون، جمعية الأرض المسطحة بهدف الاستمرار بتركة روبوثمان. عندما نشرت وكالة الفضاء الأمريكية ناسا صوراً للأرض تمّ التقاطها من الفضاء عام 1960 لم يستطع أحد أن ينكر أن الأرض كرويّة الشكل على نحوٍ منطقي. غير أن وجهة نظر شنتون كانت تقول إنّ الصور تخدع العين غير المدربة فقط: فبرنامج الفضاء الكامل ليس سوى خدعة. وهو يشمل هبوط الإنسان على القمر، ضمن رحلة فضائية.. كان يرمي إلى جعل الشعب يعتقد أن الأرض كرويّة الشكل.
إلى ذلك، تابع شارل كينيت جونسون مسيرة شنتون، بشجب المؤامرة، فكتب في عام 1980 أن موسى وكولومبس حاربا المؤامرات لخدمة الفكرة القائلة إن الكرة الأرضيّة تدور. وكانت إحدى حجج جونسون تفيد بأن الأرض هي بالفعل كرويّة الشكل، وأن أسطح المساحات الواسعة من الماء مائلة أيضاً، غير أنّه تفقّد الأسطح في بحيرة تاهوي وفي بحر سلطون ولم يجد أيّ التواء.
وتساءل إيكو في ختام مقاله إن كان ينبغي بعد ذلك أن نفاجأ من وجود أشخاصٍ لا يزالون حتى الآن يرفضون نظريّة التطوّر؟.
وفي مقابل هذه السخرية الغربية من المواقف المناهضة للعلوم الحديثة لا تزال هذه المواقف نفسها شائعة في ثقافتنا. ويكفي إيراد مثالين حدثا قريبا عن نظرية التطور وصعود الإنسان إلى القمر.
وأولهما ما كتبه الزميل الدكتور خالد المشوح (ليعذرني الزميل العزيز!) بعنوان راقب قنوات أطفالك (الوطن، 4/8/1431هـ) عن مشاهدة طفله الصغير لمحطة (إم بي سي 3) التي كانت تبث فيلما بعنوان (القرود). الفيلم يؤسس لنظرية التطور أو النشوء والارتقاء التي أتى بها العالم الإنجليزي تشارلز داروين والتي أثارت جدلا قويا ولاسيما فيما يتعلق بكتاب أصل الأنواع.
القناة العربية أو قناة الأسرة العربية التي تدار بأموال سعودية ونترك أطفالنا أمامها الساعات الطوال تهدم من خلال بث شُبه تتناقض مع النظرية الإسلامية في أصل الخلق وبدء الإنسان.
الفيلم فيه من التصريح أكثر من النظرية ذاتها وتبسيطها يجعلك تتشربها بشكل سريع.
ومن الممكن الجدل بخصوص وجود نظرية إسلامية لأصل الخلق، وعن تصريح الفيلم بأكثر مما في النظرية. لكن المجال لا يتسع هنا لمثل هذا.
والمثال الثاني ما نسبتْه بعض المواقع الإخبارية للشيخ عبد الكريم الخضير، عضو هيئة كبار العلماء، من إنكاره لوصول الإنسان إلى القمر، وأن القصد من هذا الادعاء تشكيك المسلمين بدينهم.
ويتأسس هذان الموقفان، من نظرية التطور والصعود إلى القمر، على النظر إلى هاتين القضيتين العلميتين كأنهما تهددان الدين. وهو موقف يشابه مواقف المتشككين الغربيين منهما انطلاقا من التأويل الحرفي لبعض النصوص الدينية.
وتماثل الأسباب الأخرى التي ينشأ عنها التشكك بالعلوم الحديثة في ثقافتنا العربية المعاصرة الأسباب التي تنشأ عنها المواقف المتشككة في الغرب. يضاف إلى ذلك أن كثيرا من الأفكار المغلوطة عن منجزات العلم الحديث تنشأ عن الترجمة الانتقائية والخاطئة والجزئية للنظريات العلمية. ويُلخص الشيخ هاني فحص (السفير اللبنانية، 15/8/2009م) هذا الوضع المؤسف بقوله، فيما يخص نظرية التطور: إنني بعد استقراء نسبي، لاحظت أن أكثر العرب والمسلمين، الذين ناقشوا في نظرية داروين، إنما اعتمدوا على ملخصات مبسطة في أسطر أو صفحات، ما جعلنا نختزلها في ثقافتنا الشائعة في جملة واحدة (أصل الإنسان قرد) وكفى!.
والمخرج من هذا يتمثل في تأسيس معرفتنا بمنجزات العلم الحديث، ومنه علم الفلك، على الاطلاع الدقيق عليها من مصادرها الموثوقة، وألا نكون ضحايا للمعلومات المبتسرة الشائعة عنها أو المواقف المؤدلجة منها.