في المنتدى الخليجي الأميركي، استكملت حلقة أخرى من الشراكة الاستراتيجية، واكتشفا فرصاً جديدة للشراكة الاقتصادية، وتحديات وصعوبات يتعين مواجهتها. وتميزت النقاشات بشفافية وصراحة غير مسبوقتين

في الأسبوع الماضي، استضافت الأمانة العامة لمجلس التعاون في الرياض، أول اجتماع للمنتدى الخليجي - الأميركي للتجارة والاستثمار، وهي الحلقة الثانية في الشراكة الاستراتيجية التي تأسست منذ عامين بين مجلس التعاون كمنظومة إقليمية والولايات المتحدة الأميركية.
على مدار ثلاثة أيام (3 - 5 يونيو) تداول عشرات الخبراء والمسؤولين الخليجيين والأميركيين في أفضل السبل لإرساء علاقتهما في مجالي التجارة والاستثمار. ففي حين تمتعت الولايات المتحدة في الماضي بعلاقات ثنائية قوية مع دول المجلس منفردة، فإن علاقتها بمنظومة مجلس التعاون حديثة العهد نسبياً.
وبالإضافة إلى الأهداف الاستراتيجية التي يسعى الجانبان لتحقيقها من هذه الشراكة، تسعى الولايات المتحدة إلى استعادة دورها السابق كشريك تجاري رئيسي لدول المجلس، وهو دور سلبتها إياه خلال العقدين الماضيين الصين والهند واليابان وكوريا.
وحين تم تأسيس الشراكة الاستراتيجية بين مجلس التعاون والولايات المتحدة في 2011، كان التركيز بداية على النواحي الأمنية والدفاعية والسياسية، مع أنه تم الاتفاق على أن تصحبها شراكة في المجالات الاقتصادية، وفي مجالات التعليم والبحث العلمي والصحة والبيئة.
وما أثار التساؤل أن التبادل التجاري، والعلاقات الاقتصادية عموماً، لم تنمُ كثيراً خلال العقدين الماضيين مقارنة بالشركاء الآخرين لدول مجلس التعاون.
وتبدو هذه الحقيقة واضحة من أرقام التبادل التجاري كمؤشر. ففي 1992 كان حجم التبادل التجاري بين دول المجلس وأميركا كبيراً، يشكل ما نسبته (15) بالمئة من إجمالي تجارة المجلس. أما اليوم فإنه أقل من (8) بالمئة، أو نصف ما كان عليه من عشرين عاما. وبالمقابل، كانت تجارة المجلس مع الصين منذ عقدين تشكل أقل من اثنين بالمئة من إجمالي التبادل التجاري مع العالم الخارجي، ولكن تلك النسبة تضاعفت ست مرات منذ ذاك، متجاوزة نصيب الولايات المتحدة من تجارة المجلس.
بل تجاوز التبادل التجاري بين دول المجلس وكل من الهند واليابان وكوريا في 2012 حجم التبادل التجاري مع الولايات المتحدة.
ولذلك فإن من المفهوم أن تحاول الولايات المتحدة استعادة بعض دورها السابق كشريك أساسي لدول المجلس، ولكنها اكتشفت حقائق جديدة تواجه تلك المحاولة، أهمها الخطوات التي اتخذتها دول المجلس نحو الوحدة الاقتصادية، بما في ذلك الاتحاد الجمركي والسوق الخليجية المشتركة وتكامل البيئة الاستثمارية والتجارية، والتأثيرات الملموسة لتلك الخطوات على تجارة دول المجلس مع العالم الخارجي. ويضاف ذلك إلى مستجدات الساحة الدولية، خاصة المنافسة الشديدة التي تواجهها أميركا من الدول الآسيوية.
وأخذاً بالاعتبار هذه الحقائق الجديدة، اقترحت الولايات المتحدة على مجلس التعاون، كمجموعة، الدخول في شراكة استراتيجية شاملة. وكان ذلك جزءاً من رؤية حكومة الرئيس باراك أوباما للمنطقة. وفي حين إن الاهتمام قد تركز في الماضي على الأبعاد السياسية والأمنية والدفاعاية، فإنه سرعان ما امتد إلى التجارة والاستثمار، وهو موضوعنا اليوم، وسيمتد مستقبلاً لمجالات أخرى.
وفي مجالي التجارة والاستثمار، وقع مجلس التعاون والولايات المتحدة في سبتمبر 2012 اتفاقية إطارية للتعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري والفني، وكانت تلك الاتفاقية الأولى التي توقعها الولايات المتحدة مع المجلس كمنظومة إقليمية.
وكان هذا المنتدى الأول من نوعه في مجالي التجارة والاستثمار بين الولايات المتحدة والمجلس كمنظومة إقليمية. فمع أن أميركا قد تمتعت بمكانة مميزة في علاقاتها الثنائية مع دول المجلس منفردة، إلا أن علاقتها بالمجلس حديثة العهد، وعندما تعاملت معه في السنوات الأخيرة، اقتصر التعامل على المواضيع الأمنية والدفاعية والسياسية.
ومن هنا أتى منتدى الأسبوع الماضي تنفيذاً للاتفاقية التي تم توقيعها العام الماضي، وركز على مناقشة سبل تعزيز التبادل التجاري والاستثمار على وجه الخصوص، وتم الاتفاق فيه على الخطوط العريضة لتحقيق ذلك، وطُلب من الأمانة العامة لمجلس التعاون اقتراح خطة عمل للسنوات الثلاث القادمة تحدد مجالات التعاون الواعدة، وتضع أهدافا مرحلية في كل مجال، وتقترح آليات عملية لتحقيق تلك الأهداف، وفق برنامج زمني محدد.
وشارك في المنتدى الذي استضافته الأمانة العامة لمجلس التعاون نحو (85) خبيرا ومسؤولا من الجانبين في مجالات عدة، فمن الولايات المتحدة شاركت وزارات الخارجية والتجارة والتجارة الخارجية وغيرها، ومن مجلس التعاون شاركت وزارات الخارجية والتجارة والمالية، وهيئة التقييس وهيئة الجمارك الخليجية، ومكتب براءات الاختراع ومركز تدريب الملكية الفكرية، وغيرها.
وبناء على النجاح الذي حققه المنتدى في اجتماعه الأول الأسبوع الماضي، تم الاتفاق على السعي لعقده سنوياً، وعلى تشكيل فرق عمل متخصصة لتنفيذ العناصر المختلفة التي نصت عليها الاتفاقية الإطارية وما يُتوقع أن تتضمنه خطة العمل المشترك.
وتطرق المنتدى إلى مواضيع أخرى مثل آليات التنسيق بين المجلس والولايات المتحدة في إطار منظمة التجارة العالمية، وبناء القدرات في مجالي براءات الاختراع وحماية الملكية الفكرية.
وخلال أيام المنتدى الثلاثة، اكتشف المشاركون أن ثمة فرصاً كثيرة وهامة للتعاون، ولكن ثمة تحديات وصعوبات يتعين مواجهتها كذلك. فعلى سبيل المثال طُرح موضوع الخطوات الأحادية التي اتخذتها الولايات المتحدة في السابق ضد بعض منتجات دول المجلس من البتروكيماويات، والصعوبات التي واجهت بعض المستثمرين مثل شركة موانئ دبي.
وقياساً على ما تم حتى الآن في المشاورات التي سبقت توقيع الاتفاقية الإطارية، وفي منتدى التجارة والاستثمار الأسبوع الماضي، فإن الحوار اتسم بالشفافية والصراحة، والتصميم على بناء العلاقات المستقبلية على أسس عملية مدروسة يمكنها مقاومة المتغيرات السياسية والاقتصادية. وانسجاما مع ذلك، فإن خطة العمل المشترك، التي أوكلت للأمانة العامة لمجلس التعاون اقتراحها، يجب أن تقترح طريقاً واضحة للشراكة الاقتصادية، تتضمن أهدافاً واضحة قابلة للتنفيذ خلال الفترة الزمنية المحددة، وآليات فعالة وعملية، وجدول زمني واقعي.
وبعد إرساء التعاون الاقتصادي بين مجلس التعاون والولايات المتحدة على هذا النحو، فإن من المتوقع في المستقبل القريب، أن تمتد دائرة اهتمامهما لتشمل الصحة والبيئة والتعليم والبحث العلمي وغيرها. وبتحقيق ذلك، تكتمل عناصر الشراكة الاستراتيجية بين المجلس وأميركا.