معظم من اطلع على بعض الأسرار التاريخية، سياسية كانت أو شخصية لدول أو مسؤولين مهمين، يظل يطوي سرهم بين جوانحه، ولا يكتب عنها إلا بعد موت الأشخاص أو سقوط الأنظمة والدول
تذكرت قبل كتابة هذه الخواطر سلسلة مقالات المرحوم: حبيب جاماتي التي كان يكتبها قبل أربعين سنة في مجلة (المصور) المصرية، وكانت تلك المقالات ممتعة، لأنها مختلفة، ولافتة للانتباه، ولأنه يتخير من التاريخ الذي حدث ما لم يكتبه التاريخ، ولهذا سمى زاويته الشيقة بهذا الاسم الجميل.
ولكي يعيش الكاتب أو غيره في بر الأمان ويمشي على سكة السلامة! عليه أن يكتب عن الماضي الذي تولى، ويحكي عن قصص حدثت في الزمن الغابر، أما لو كتب (الجاماتي) أو غيره عن الحاضر أو عن أشخاص نافذين لا يزالون على قيد الحياة، فتلك مصيبة كبرى لن يسلم منها هو أو غيره!
ومعظم من اطلع على بعض الأسرار التاريخية، سياسية كانت أو شخصية لدول أو مسؤولين مهمين، أو سمعها من المقربين أو حتى من غيرهم، يظل يطوي سرهم بين جوانحه، ولا يكتب عنها إلا بعد موت الأشخاص أو سقوط الأنظمة والدول.
ويبقى التوثيق في كل الحالات مهما ليس لإنصاف الحقيقة التي قد تكون مُرّة غالبا، بل لإنصاف الضحايا أيضا. فمن العيب ليس على الكاتب فقط وإنما على الإنسان المحترم والكاتب الآمين أن يصدق النميمة، أو يسعى بها بين الناس، سواء على النطاق الفردي أو العام، ومن الظلم الذي يصل إلى الجور أن يقذف الإنسان بما ليس فيه أو لم يفعله، سواء كان حاكما أو صعلوكا، دولة أو نظاما.. قرية أو عصابة.
في حياتي الأدبية الطويلة – نسبيا – واطلاعي الواسع على الكتب والمطبوعات، ومخالطتي لأشخاص من مختلف المستويات، وأسفاري الكثيرة حول العالم، قرأت وسمعت الكثير من القصص والأسرار والحكايات، ربما بعضها أفظع مما كتبه المرحوم: حبيب جاماتي عن ما أهمله التاريخ.
في كتاب (كسرة خبز) لوزير سوري سابق وسفير لبلاده في فرنسا ألفه السيد/سامي الجندي منذ سنوات وفُقد من المكتبات وهو موجود على (النت) حاليا، يشمل قصة أهملها التاريخ الحديث، وهي تسليم الجولان السوري لإسرائيل 1967 ـ وأظنه ـ ببيع تأجير لمدة 99 سنة وبمبلغ 300 مليون دولار فقط لا غير، وقلت (تأجير) لأن أحدا لا يملك بيع جزء من وطنه أو لحما من جسمه ولا القانون الدولي يجيز ذلك؟!
هذا غير التصريحات أمس واليوم من كبار المناوئين للحكم السوري، وَنشْر الوثائق في (النت) عن الموضوع وقبلها الكتب.
وكان وقتها: حافظ الأسد (اسم عائلته الوحش سابقا) ضابطا كبيرا من الطائفة العلوية التي كانت في ذلك الحين، محتقرة، وضعيفة إن لم تكن منبوذة، في سورية التي يغلب على شعبها وصناع القرار بها والأغنياء فيها مذاهب أهل السنة.
وكان المذكور ذكيا على غير عادة طائفته، وطيارا حربيا فصار وزيرا للدفاع ثم رئيسا للجمهورية بانقلاب بعثي كما كان: عبدالحليم خدام السني المنشق حاليا على النظام، محافظا للجولان.
كان هدف (العلويين) تكوين دولة لهم في الساحل السوري من باب الهواء إلى العريضة تشمل جبال النصيرية (العلويين) وهي من أجمل وأخصب البقاع في سورية كما رأيتها بنفسي، وهذا المشروع قديم فقد سبق للانتداب الفرنسي أن اقترح دولة للعلويين في العشرينيات من القرن العشرين، وسلّم الفرنسيون 1939 إقليم الإسكندرون الخصب إلى تركيا، بعد استفتاء شعبي سريع بإشراف أُممي وافق فيه أغلبية سكانه (العلويون) على الانضمام لتركيا بدل بقائهم مع الوطن الأم.
وهذه الطائفة من الفرق الخطيرة في التاريخ الإسلامي، وأنا هنا لا أرجمها بالغيب أو أعمم الحكم عليها، ولكني أنقل من التاريخ البعيد، بعد أن أشرت إلى التاريخ القريب، فقد ذكر جورجي زيدان في سلسلته المشهورة بـ(روايات تاريخ الإسلام) وهو المؤرخ الثقة والأديب الواسع الثقافة والاطلاع في روايته التي قرأتها منذ أكثر من ثلاثين سنة: واسمها (صلاح الدين ومكائد الحشاشين) كيف أن هذه الطائفة المنحرفة عن تعاليم الإسلام، وكانت تسمى (الحشاشين) أو (النصيرية) ثم (العلويين) تقربا بالاسم الأخير للمذهب الشيعي، كانت عونا للصليبيين في حربهم على ديار الإسلام بالشام في حملاتهم المعروفة وقد ألف عنهم المؤرخ الأميركي اليهودي: برنارد لويس كتابا كاملا يفضح تاريخهم الأسود، فقد كانوا دائما شوكة في خاصرة العرب والمسلمين وعونا لأعدائهم.
كما أن قصة مجيء (معمر القذافي) المشكوك في أصله وفصله مثل (صدام العراق) للحكم هي قصة أخرى مما أهمله التاريخ! فقد مرض الملك: إدريس السنوسي وشاخ، وذهب لتركيا للاستشفاء والراحة، واستدعى إلى هناك جمعا من أعيان ليبيا لتكوين مجلس وصاية يخلفه لأنه لا عقب له، ولأن ابن أخيه وكان ولي العهد (الحسن الرضا) لا يصلح للحكم ويمكن أن يبقى كرمز لملكية دستورية، ولما علمت الاستخبارات البريطانية التي كانت متبنية (الصبي معمر) منذ الصغر وتراقبه بذلك وكان لها قاعدة عسكرية في ليبيا، أوعزت للعقيد الصغير في رتبته وسنه وقتها (27) سنة وبمعرفة القاعدة الأميركية بليبيا، بالقيام بانقلاب عسكري، وأمرتهم أي مجموعة ضباط الانقلاب بتبني الخط الثوري الناصري الذي كان (موجة) الشارع العربي في ذلك الوقت، وكان جمال عبدالناصر لا يزال حيا، وبعد لقائه بالشاب معمر أسبغ عليه لقب (أمين القومية العربية) واتخذه حواريا وخليفة له على الشارع العربي ولكن إعلاميا ومنها بدأت تتضخم مأساة (العقيد) عربيا.
ودارت الأيام.. ومات (جمال) مريضا وحزينا و(معمر) مهانا وقتيلا؟! وكما قيل: على الباغي تدور الدوائر! وتبقى الشعوب العربية كالأيتام على مائدة اللئام!
قصص عجيبة ومخزية حدثت بالفعل، وتُفسر واقع فشل الانقلابات العسكرية وبعض الدول العربية.