المشهدية التي تتعدى الرصد والتوصيف إلى 'التعزيل' وإنبات الضوء
في مقابلة مع روز اليوسف في ديسمبر الماضي، علق قاسم حديد على معلومة صحفية تقصر التجربة الشعرية ـ غالبا ـ في بلده البحرين على اسمه فقط، بقوله هذه مشكلة الكسل المعرفي في صحافتنا الثقافية، في حين أن كل العالم يعرف الآن أن هناك حوالى 100 شاعر في البحرين يمكنك اكتشافهم من خلال شبكة الإنترنت. قد لا يهم العدد هنا فهو مجرد إشارة إلى أن الأفق يزخر بأسماء فاعلة ومؤثرة، ولها حضورها الذي يقتضي قليلا من البحث والانتباه وتحريك المصباح نحو إنتاج الساحة الإبداعية في البحرين، بما يقطع أن التجربة هناك لا يكتبها شخص واحد ولا ينفرد بها، ويؤذيه اختصار ـ هذه التجربة ـ في كتابته وحسب.
من الأسماء اليانعة في دفتر الشعر، يحضر الكاتب الشاب جعفر العلوي في إطلالته الأولى للتوضيح فقط (دار الغاوون للنشر والتوزيع، بيروت ـ 2011) والتي توزعت نصوصها على ثلاثة عناوين الفتى الذي هناك والضحية التي أنا والمسكينة التي هي تمزج ما بين التاريخ الشخصي، ومثول هذا التاريخ متحولا في الهواء العام كفائض مراقب تعتقله تجربة وجوده في أطراف المشهد، فيما القلب مزجوج في ملح الخسارة؛ مدا وجذبا.. وكأن هذه النصوص في إجمالها طوق واحد يتوسع في تنويع التجربة وتلوينها لكنه لا يفتأ في الترجيع على سكة الذات ومغناطيسها الذي يجذب اللاصلةَ القابعة تحت الاسم الموصول؛ السر الذي ينبغي إظهاره وتوضيحه.
يلفت، في هذا العمل، المشهدية التي تتعدى الرصد والتوصيف إلى التعزيل وإنبات الضوء تنفرج عنه الوحدات البانية، ليبزغ الأثر ويطلع وسم التجربة عن الكائن المقسوم في فضاء مفتوح يموج بما تمنحه العوالم الافتراضية من مساحات شاسعة غير أنها مأهولة بشغب التواصل الذي يعبد مسارا وهميا من الاستجابات الآنية التي تقدم منافذ وحلولا تحاول القفز على المسار الصلب؛ الهوة اليومية التي ينحشر فيها الكائن ويناورها مناورة العبث واللاجدوى على النحو الذي يقابلنا في نص تحكم بهذا العنوان المراوغ الساخر الذي ينبئ عن الإرادة والتسيير من قبل الذات في العالم الافتراضي وفي الحركة الفردية، لكن دفةَ التحكم وقتية، لا تتلبث إلا يسيرا. يتفتت الفعل الافتراضي والذهني لصالح الحركة الخارجية التي تقسر الذات وتأسرها وتثبتها في مكانها لا تريم عنه. يتألف النص من ثلاث وحدات؛ حركات. الأولى والثانية تفيضان بالفعل والمبادرة والتصريف وسعة الحيلة والتمكن، لكن كل هذا ينحسر في الوحدة الثالثة، إذ تتبدى الذات خلوا من مناوراتها الواسعة؛ مجوفة؛ خاوية حتى منها. تذهل الذات عن وجودها الشخصي ورسمها العيني. يغيب ما تلتحم به وتتمثله حياة سوية تحوك تفاصيلَها عبر مروحة من الخيارات قوامها الحرية ومرجعية الذات وإرادتها في امتلاك زمام الأشياء؛ هذا الـتحكم عندما يتلاشى فإن الكائن يتلاشى معه وينطوي كتابه:
(لا أحد يسرق صمتي/ أغير قناعاتي من على السرير/ بالـريموت كونترول/ أضاجع وحدتي عبر الـويب كام/ وأتناول عشاء فاخرا مع صديقتي/ بالـإس إم إس// أراقص ارتجافي/ على وقع تكات ساعة واقفة/ وإذا سئمت/ أتحدث مع رأسي/ عن الحياة الجميلة في الخارج// في البيت/ مثبت أنا ببرغي طويل/ على خشبة إطار قديم/ لا صورة فيه).
هذا السيناريو الذي يختبره القارئ في نص تحكم يتمدد حضوره على نصوص للتوضيح فقط في أجزائه الثلاثة، حيث فعل التجاوز محكوم بالاندحار، وسبر الممكنات مآلها العطب (نصوص: ما يزيد عن حاجتي لي؛ خدوش؛ ضجر؛ بلا شروط؛ زبون دائم؛ مزاج قابل للشتم؛ كما لو قصيدة؛ رغبة؛ عجز؛ خيبة؛...) بما يعني أننا قبالةَ كتاب متماسك وتجربة لديها ما تقوله بكيفية فنية جميلة.
* * عبدالله السفر كاتب سعودي