أرى أن تتم إعادة النظر في المنظومة الرقابية في المملكة في مختلف جوانبها، والتحول من الرقابة المستندية الشكلية، إلى الرقابة المهنية التي تعتمد على معايير المراجعة والأسس العلمية لها

المشاريع الوهمية هنا ليس معناها الوعود التي تطلقها بعض الجهات الحكومية عن المشاريع المستقبلية أو المشاريع المتعثرة، وإنما المقصود بذلك المشاريع التي تم اعتماد مبالغها في الموازنة العامة للدولة، وتم التعاقد على تنفيذها، وتم الصرف فعلاً من الاعتمادات المالية عليها، دون وجود حقيقي لهذه المشاريع.
الكثير من الناس تساءل كيف لم تستطع الأجهزة الرقابية الكشف عن هذه المشاريع الوهمية بالرغم من تعدد هذه الأجهزة؟ فهناك وزارة المالية والتي تمارس الرقابة المسبقة عن طريق الممثلين الماليين، والذين يتمثل دورهم الرقابي في الإشراف على عمليات الإيرادات والمصروفات، ولا يتم الصرف في أي جهة حكومية أو التعاقد إلا بموافقة الممثل المالي، فضلاً عن إرسال عقود المشاريع إلى وزارة المالية لمراجعتها.
وهناك أيضاً ديوان المراقبة العامة والذي يمارس دور الرقابة اللاحقة، وتتم مراجعة عقود المشاريع ومستندات الصرف، فضلاً عن الرقابة الميدانية للمشاريع، وهناك هيئة الرقابة والتحقيق والتي تقوم أيضاً برقابة ميدانية على المشاريع وتقوم بإجراء الرقابة اللازمة للكشف عن المخالفات المالية والإدارية.
ولا ننسى أيضاً دور الإدارات المالية وإدارات المتابعة في الجهات الحكومية في تطبيق إجراءات الرقابة الداخلية على المشاريع والتي منها اللجان الفنية ولجان فحص العروض وغيرها، وصولاً إلى وزراء هذه الجهات والذين يعتمدون عقود المشاريع بصفتهم أصحاب الصلاحية.
وبناءً على ما سبق، فإن عقود المشاريع تمر بسلسلة إجراءات رقابية طويلة ومعقدة وقد تبدو محكمة، عن طريق أجهزة رقابية متعددة، ومع ذلك تظهر مشاريع وهمية بمليارات الريالات، مرت مر السحاب على الرقابة! بمعنى أن هذه المشاريع تمت مراجعة عقودها وتمت الموافقة على الصرف من الموازنة بإذن وموافقة الأجهزة الرقابية!
يذكر أن ديوان المراقبة العامة أشار في أكثر من مناسبة إلى أن أحد المعوقات التي تواجهه لجوء بعض الجهات الحكومية إلى حجب البيانات والمعلومات والعقود عن الديوان لمبررات مختلفة، مع أن الأنظمة والتعليمات تؤكد على ضرورة التعاون مع الديوان، وحجب المعلومات يعتبر من ضمن المخالفات المالية والإدارية، وتعرّض من يخالف ذلك للمساءلة القانونية والتأديب الوظيفي، والكثير من الجهات الحكومية تعي ذلك جيداً، ولكن ما يحدث في الواقع أن حجب المعلومات والبيانات يتم بطرق نظامية أو طرق ملتوية لأسباب عديدة، وما يهمنا هنا هو كيف تم حجب المشاريع الوهمية عن أعين الرقابة؟!
هناك عدة طرق ووسائل ينتهجها البعض في سبيل حجب المعلومات وخداع الأجهزة الرقابية منها على سبيل المثال: تكوين شركات وهمية لا وجود لها مسجلة بأسماء الأقارب أو المتعاونين للمتنفذين في بعض الأجهزة الحكومية، ومع أن هذه الشركات وهمية إلا أن لها سجلات تجارية مسجلة فعلاً، ولها قوائم مالية مصدقة من محاسب قانوني مرخص له، ومستكملة للنواحي النظامية الأخرى مثل شهادة مصلحة الزكاة والدخل وشهادة التصنيف وشهادة السعودة وغيرها. تقوم هذه الشركات الوهمية بالدخول في المنافسات الحكومية وقد تكون هذه الشركات هي الوحيدة المتقدمة للمناقصة أو نتيجةً لعلمها بالأسعار مقدماً، وبالطبع تتم الترسية عليها، وعادةً يكون هناك نفوذ قوي على لجان فحص العروض، وعليه يتم التعاقد مع إحدى هذه الشركات وفقاً للأنظمة والتعليمات مستكملة جميع الأوراق النظامية، وتتم الموافقة عليها من قبل الممثل المالي ويتم إرسالها إلى وزارة المالية وديوان المراقبة العامة لمراجعتها، وفي العادة لا تكون عليها ملاحظات جوهرية.
هذا من ناحية التعاقد، أما من ناحية الصرف فيتم إعداد المستخلص حسب النموذج المعد لذلك، والذي يتطلب عادةً إعداده والتوقيع عليه من المهندس المشرف أو الاستشاري المشرف على المشروع، وهنا إما أن يكون هناك تواطؤ مع المهندس أو الاستشاري، أو استخدام نماذج إشرافية من مطبوعات المكاتب الاستشارية دون علم أصحابها وذلك عن طريق المندوبين لهذه الشركات.
وبعد استكمال نموذج الإشراف يتم اعتماده من قبل الشؤون المالية دون إجراءات رقابية تذكر، وبناءً عليه يتم إعداد اعتماد الصرف وأوامر الدفع وتتم مراجعتها حسب النظام.
وهكذا تدور الدورة المستندية المالية بشكل نظامي، ويتم إيداع المبالغ النقدية في حسابات الشركات الوهمية، والتي تكون في الأساس تابعة لأحد النافذين في الجهة الحكومية.
أما إذا وقع أحد هذه المشاريع تحت الزيارات الرقابية الميدانية، فهناك طرق عدة لحجب الحقيقة عن أعين الرقابة، وذلك عن طريق إخفائها في البيانات أو زيارة مواقع لمشاريع قائمة بديلة عنها وإيهام مندوب الرقابة أن هذه هي المشاريع المطلوبة، أو افتعال مشكلة مع مندوبي الرقابة حتى تصبح هذه المشكلة هي القضية الأساسية ويتم نسيان موضوع الرقابة، وفي بعض الأحيان يقوم البعض بكشف بعض الملاحظات لمندوب الرقابة حتى ينشغل فيها، ولا يلتفت إلى الملاحظات الأخرى المهمة.
والأدهى من ذلك أنه في حال كشف أحد المشاريع الوهمية، تعمد بعض الجهات الحكومية إلى إخفاء الموضوع بشتى الطرق حفاظاً على سمعتها، وخوفاً من تبعات المساءلة، لذلك تبحث عن أي طريقة قانونية للتبرير وبالتالي حفظ الموضوع وتطلب من موظفيها عدم التعاون مع مندوبي الرقابة، وعدم إعطائهم أية معلومات ومن يخالف ذلك قد يتعرض للمضايقة والحرمان من المزايا الوظيفية.
وبعد كل هذا، أرى أن تتم إعادة النظر في المنظومة الرقابية في المملكة في مختلف جوانبها، والتحول من الرقابة المستندية الشكلية، إلى الرقابة المهنية التي تعتمد على معايير المراجعة والأسس العلمية لها، فبدلاً من إرسال الحسابات والعقود، يتم تشكيل فرق مراجعة تقوم بزيارات ميدانية للجهات الحكومية بحيث يتم تحديد أهداف الرقابة بشكل واضح وتخطيط سليم للمهام، وإعداد برامج المراجعة اللازمة وتقييم أنظمة الرقابة الداخلية والاعتماد على العينات الإحصائية العلمية، وهذه هي الآلية المناسبة لتفعيل الرقابة المالية والكشف عن المشاريع الوهمية، وآمل أن يؤخذ ذلك في الاعتبار عند تحديث نظام ديوان المراقبة العامة مستقبلاً.