انشغلنا بقضية الاختلاط والعلاقات المحرمة بين الجنسين، والتي يمكن أن تنتهي نهاية جيدة بالزواج .. لو صلحت النيات، في حين تتوارى قضية، لا حل لها، مثل المثلية الجنسية إلى الركن

انطلقت طائرة الخطوط الجوية السعودية في رحلة داخلية تقطع فيها بلادنا الشاسعة باعتبارها –حتى إشعار آخر- خيار السفر الوحيد العملي المتاح للغالبية. وكالعادة ما إن يدخل الركاب وحتى لحظة الإقلاع وطقم الملاحين ينشغل بلعبة الكراسي لحل مشكلة جلوس الراكبات المسلمات عموماً والسعوديات خصوصاً بجانب الركاب الأجانب. ولا أعرف لمَ لا يتم تطوير نظام الحجز، بحيث يظهر جنس الراكب وقت اختيار المقاعد عبر الإنترنت، أو حتى لدى موظف الخطوط في صالة المطار؟ صحيح يستحيل التغلب على هذه المشكلة بشكل كامل بسبب عدم تساوي أعداد النساء والرجال والأطفال في طائرة ما، لكن لعله يقلل منها ومن إضاعة الوقت. في رحلتنا الأخيرة قام شابان – هيئتهما ولهجتهما تقولان إنهما سعوديان- بالتنازل طوعاً عن مقعديهما لي ولسيدة أخرى، في موقف ينم عن ذوق واحترام وتفهم لعادات البلاد، شكرناهما وشعرنا بالامتنان، لكن ما إن أقلعت الطائرة حتى فوجئنا بمنظر لأحدهما لا يسر الناظرين، وقد تفاجأنا به كثيراً، لأنه لا يتفق مع هيئة الشاب وسلوكه العام!
حينما يتعرف شاب وفتاة للمرة الأولى، تجد البدايات عادة خجولة، يتخللها أسئلة ومحاولات لإذابة الجليد، ولا تتطور الأمور إلى إطلاق المشاعر لفظاً أو فعلاً إلا بعد عدة لقاءات، وقد لا تتطور إلا مع عقد القران بحسب تربية كل منهما وتدينه ونيتهما من العلاقة. ولذلك كان من الغريب جداً أن تجد شاباً يتعرف إلى شاب آخر للتو، ثم بعد عشر دقائق أو أكثر بقليل تجدهما يتصرفان بشكل غريب وغير لائق، دون خجل من الركاب، أو من الملاحين، ومع أنني بحكم إقامتي الطويلة في الخارج شاهدت هذه المناظر المؤسفة للشاذين في الأماكن العامة لدرجة أنها ما عادت مستغربة، لكنها المرة الأولى التي أراها فيها على هذا النحو داخل وطني المسلم المحافظ، فأزعجتني وأثارت استيائي، خاصة لجهة المجاهرة.
رفيقتي في السفر كانت سيدة عربية ناضجة، مقيمة هنا منذ الطفولة، ويبدو أن المنظر كان أكثر غرابة بالنسبة لها، وأكثر إثارة لاستيائها مني، كانت تضع يدها على رأسها وتستغفر. في البداية أردنا أن ندعو عليهما، ثم عدلنا رأينا وبدأنا بالدعاء لهما بالهداية، فأحدهما يبدو خلوقاً ومن عائلة محترمة، ومن المؤسف سقوط مثله في هذا الوحل. جرنا هذا التصرف للحديث عن أسباب ظهور الشذوذ في مجتمعاتنا، بل وظهورها علناً على السطح مؤخراً، فما الذي يجعل المرء ينحرف عن الفطرة السوية، ويسيء لنفسه وأهله ومجتمعه، وقد يعرض حياته للخطر بهذه العلاقات؟
سيتدخل البعض هنا ويقولون هو الكبت، والفصل الحاد بين الجنسين، ولكن لو كان هذا هو السبب فعلاً فلماذا يظهر الشذوذ على نحو واسع في المجتمعات الأكثر انفتاحا وحرية؟ مع اعترافي بأننا في مجتمعنا انشغلنا بقضية الاختلاط والعلاقات المحرمة بين الجنسين، والتي يمكن أن تنتهي نهاية جيدة بالزواج .. لو صلحت النيات، في حين تتوارى قضية، لا حل لها، مثل الشذوذ إلى الركن، فلم أسمع خطباً ولا فتاوى ولا برامج ولا مناشط دعوية توليه اهتماماً كما أولته لقضايا عباءة الرأس أم الكتف، وعمل المرأة المختلط، وحتى قيادة المرأة للسيارة، مع أن الشذوذ محرم بالإجماع وتأثيره مدمرٌ على المجتمعات والأسر.
رأي آخر سيتحدث عن الانفتاح الزائد والتأثر بالغرب والأفلام الإباحية وغيرها، ولا ينكر حتى العلم وأبحاثه التأثير المدمر لهذه الأخيرة، لكنه ليس سبباً كافياً، بدليل أن ملايين الشباب المغرمين بالغرب، أو المشاهدين لهذه النوعية من المشاهد السيئة لم يتحولوا عن ميولهم الفطرية، ولم يتنازلوا عن رجولتهم وشرفهم.
من الأسباب الأخرى التي تطرح الأسباب الأسرية والنفسية والاجتماعية، كأن يكون الشاب تعرض لتحرش جنسي وهو طفل، وبالتالي بدأ حياته في هذا المستنقع، فانعدمت ثقته بنفسه، وفقد إحساسه بالكرامة، وبالتالي لم يستطع أن يخرج من هذا الإطار، ومع مرور الوقت تعود عليه وبات هذا هو الوضع الطبيعي بالنسبة إليه. وسيفتي غيره من الأطباء أو علماء النفس بأن للأمر علاقة باختلال الهرمونات أو اضطرابات نفسية سلوكية، وغيرها من التفسيرات.
وكل الآراء السابقة هي لأناس يعتقدون بخطأ هذا الأمر وبالتالي يبحثون عن جذوره وأسبابه، لكن سيبرز فريق آخر، وهو الرأي المتبنى في معظم المجتمعات الغربية، أن الأمر لا يعدو عن كونه خياراً شخصياً يجب أن يُحترم، مثله مثل أن تختار أن تكون نباتياً. إلا أن المتدينين من أتباع الديانات السماوية الثلاث لا يعترفون بهذا الرأي، ويؤمنون بأن الإنسان إما ذكر أو أنثى، ولا وجود لجنس ثالث، وأن العلاقات العاطفية والجنسية يجب أن تكون بين الجنسين فقط وعبر بوابة الزواج الشرعي.
ما دعاني لطرح هذا الموضوع، والذي أرجأت الكتابة فيه مراراً، باعتباره من المحرمات التي يتحرج مجتمعنا من الخوض فيها، هو ما سمعته وقرأته عن ظهوره للعلن بشكل أكثر جرأة من السابق، والدليل ما شاهدته بنفسي في الطائرة، فتناولته من أجل الدفع باتجاه تشريح العلاقات الشاذة لوضع الحلول الوقائية -على الأقل- للحد منها. فلا أحد يستطيع تفسير هذه الأفعال نحن بحاجة إلى فرق علمية متكاملة تضم علماء نفس واجتماع وأطباء وعلماء شريعة لدراسة هذه الظاهرة في مجتمعنا، فمن قال بأننا لا نحتاج للتخصصات الأدبية والإنسانية، فهل بغيرها يمكن فهم أنفسنا كأفراد ومجتمعنا كذلك؟
هذه الفئات لا تزال قليلة نسبياً بحمد الله، لكننا لا نعرف كيف ستتطور الأمور في المستقبل، فإن زاد العدد قويت الشوكة، وصارت لهم ربما -كما في الدول الأخرى- مطالب، تدعمها المنظمات الدولية لحقوق الإنسان وغيرها، والتي لها منطلقات ليست بالضرورة متوافقة مع شريعتنا وقيمنا. فهل تتبنى هذه الدراسة جامعة أو مؤسسة بحثة ما؟