كل الأطراف مشتركة في هذه الفوضى، من المتشددين الذين تخصصهم الدقيق وأد الفرح، إلى المتحررين الذين يسيئون استخدام أصغر قدر متاح من الحرية، إلى رجال الأعمال الذين يبحثون عن كسب سريع، إلى البلديات والإدارات الحكومية
قابلتها صدفة بالقرب من أحد المحلات في وسط لندن، زميلة لطيفة من مشروع اجتماعي سعودي كنا في فترة ما من عضواته، أخبرتني بلهجة حزينة بأنه بعد عامين من السكنى في بريطانيا فإن وقت الرحيل قد أزف، فالأبناء قد استقروا في جامعاتهم، ثم عبرت عن مشاعرها بصراحة: لست سعيدة أبداً ..أنا مرتاحة جداً هنا في لندن.. فبالرغم من أن لدي صديقات كثر في جدة وأعمال ونشاطات كفيلة بجعلي مشغولة طوال الوقت هناك لكنني أفضل البقاء هنا.. كما ترين الحياة وتفصيلاتها الصغيرة لها معنى مختلف هنا.. تعرفين ماذا أقصد؟ وبالطبع كنت أفهم فهي تقصد إحساس المرأة بأنها مستقلة في تنقلاتها، وفي ممارستها لحياتها الطبيعية دونما عوائق حقيقية، وعبثاً حاولت أن أرفع من معنوياتها وأريها النصف الممتلئ من الكأس وأهديها شيئاً من حماستي الشخصية للعودة.
ظللت أفكر بعدها كيف أن ردة فعل الكثير ممن أعرف من النساء السعوديات على وجه الخصوص، بغض النظر عن العمر أو الحالة الاجتماعية، قد رددن المقولة نفسها. ومع أنه يوجد ولا شك فرق واضح في مستوى الحياة بين دولة نامية مثل السعودية ودولة من الصف الأول مثل بريطانيا، وهناك فرق في الطقس والطبيعة، لكنني لاحظت بأن الكثير من جيراننا وبعضهم من دول المستوى الأمني أو الاقتصادي أو الحضاري فيها أدنى بكثير مما هو عليه الحال عندنا، لا يحملون ذلك القدر من الحسرة للعودة إلى بلدانهم الأصلية كما نفعل نحن! فهل بلادنا فعلاً تنطوي على عوامل طاردة لأهلها؟
سأقول ابتداء بأن هناك من الناس الذين يحلو لهم أن يتذمروا من بلادهم والعودة إليها لأنهم يعتقدون بأن ذلك يظهرهم بأنهم أناس أكثر رقياً أو حضارة من أهلهم أو مواطنيهم لأنهم يعتقدون ـ بسطحية مفرطة ـ بأن الأمر يجعلهم يبدون أكثر جاذبية حتى لو عاش بعضهم خارج البلد لبضعة أشهر فقط، في حين أنهم في الحقيقة يظهرون للآخرين بأنهم سخفاء للغاية ومجوفون، وبالتالي فحين يبدأ هؤلاء في الحديث على أنهم لا يعرفون ماذا سيفعلون عندما يقدر الله عليهم وتنتهي البعثة ويساقون إلى وطنهم فإني ابتسم ابتسامة ساخرة في سري، لكن هذا لا يمنع بأن البعض الآخر يحمل سبباً يراه وجيهاً لعدم حماسه لهذه العودة.
أكتب مقالي هذا وأنا أستريح تحت ظل شجرة في حديقة الهايدبارك التي هجرتها زمناً لأنها باردة شتاء ومزدحمة صيفاً، وأنا أشاهد جموعاً متباينة من الناس في هذه الحديقة الجميلة، ونسبة لا بأس بها من هؤلاء هم (وهن) من أهل بلدي، هذه الحديقة التي تبلغ مساحتها (1420000 متر مربع) هي مجانية للجميع وفيها كل المرافق الضرورية وأكثر، وأنا إذ أنهمك في الكتابة أدرك بأنه في غضون الأشهر القادمة فإن ما أقوم به الآن سيعد حلماً صعب المنال!
ففي مدينتي (جدة) لا توجد حدائق بالأساس ناهيك بأن تكون هناك واحدة بهذا المستوى، وحين توجد فغالباً لن تكون مجانية أو لن تكون نظيفة أو لن يكون فيها الحد الأدنى من المرافق التي يحتاجها من يريد أن يقضي ساعتين على الأقل في الهواء الطلق. لن أتكلم عن الطقس فهذه أمور ليست بيدنا، وكما إننا نشكو الحر الشديد والجفاف أو الرطوبة معظم أيام السنة، فالناس هنا تشتكي من البرودة والأمطار والجو الكئيب معظم أيام السنة كذلك، ولكن ذلك لم يكن عذراً لعدم بناء منتزهات طبيعية للبشر تعمل كرئة لهذه المدن وإذا افترضنا ـ مجرد افتراض ـ أن مكاناً مثل هذا قد وجد على أرض بلادنا الغالية، فإن المشكلة لم تحل بالنسبة لي كامرأة في بلد لا توفر مواصلات عامة، ولا تسمح للنساء بالقيادة، وتظهر فيها فتاوى حرمة الركوب مع السائق، لا أعرف لماذا تذكرت هنا حديث المرأة التي دخلت النار في هرة لم تطعمها ولم تدعها في الوقت نفسه تأكل من خشاش الأرض! وحتى لا أكون درامية في حديثي، فسأقول بأنه ستوجد حديقة رائعة وسيكون الجو ربيعاً وعندي سائق وأهل لا يمانعون خروجي وسأذهب للحديقة ولكن هل سأظل فعلاً لمدة ساعتين فيها دون أن أتعرض لأي نوع من المضايقات؟ أعتقد أننا الشعب الوحيد ربما الذي لم يحل إشكالية كيف يتعايش كائنان حيان من فصيلة إنسان في البيئة ذاتها دون أن يفترس أحدهما الآخر أو يغويه!
ضربت مثال الحديقة لأختصر قضية جودة الحياة المفقودة لدينا، فليس بالمال والرفاهية المصطنعة وحدهما يحيا الإنسان، مدننا تحولت إلى كتل من الأسمنت ترسم معالم مكان يتكون من منازل بأسوار عالية ومراكز تجارية ضخمة وفنادق ومبان تطاول عنان السماء ومطاعم. مدن بلا روح لم تعلمنا حتى كيف نرى الجمال ناهيك على أن نتذوقه أو نحتفي به، لدرجة أن الكثير من أبناء هذه الأجيال التي نشأت في هذه المدن صارت مدمنة على قيمها هذه، فباتت حتى حين تسافر إلى حيث الخضرة والماء والوجه الحسن لا تشعر بأية متعة، وتهرع باتجاه المراكز والمطاعم والمقاهي إياها في ظاهرة سياحية فريدة تحمل صبغة خليجية بالخصوص. ومما يزيد الطين بلة أن هذه المدن قامت على أنقاض مدن تاريخية فشوهتها.. كانت هناك ذات يوم بساتين وحدائق غناء في بعض المدن مثل الطائف أو الأحساء.. فما الذي حصل لها؟ أما الآثار فلن أدخل في هذه الجزئية من الأساس.
بلادنا تفتقر حتى إلى الحراك الثقافي الحقيقي من معارض دائمة ومكتبات ومسارح وسينمات وندوات وفنون بكل أشكالها وذلك مقارنة ببلد تبلغ مساحته مساحة حي في جدة أو الرياض مثل البحرين، وإن حصل وكان هناك معرض للكتاب مثلاً سيتحول إلى قضية الشرق الأوسط بسبب قضايا من عينة الاختلاط أو الغزو الفكري. وكل الأطراف مشتركة في هذه الفوضى التي نعيشها، من المتشددين الذين تخصصهم الدقيق وأد الفرح، إلى المتحررين الذين يسيئون استخدام أصغر قدر متاح من الحرية فيعطون انطباعاً عما سيكون الوضع عليه فيما لو زيدت هذه الجرعة، إلى رجال الأعمال الذين يبحثون عن كسب سريع من مشاريع لا تفيد البلاد بشيء، إلى البلديات والإدارات الحكومية التي لا نعرف ماذا تفعل بميزانياتها، فكيف نتوقع والحال هذه أن يرغب شخص عاش ولو عاما واحدا في لندن أو نيويورك أو سيدني أو تورنتو أو طوكيو أو حتى القاهرة أو دبي أن يصبح متحمساً للعودة إلى بلد يراه مملاً ومعقداً؟