لم تعد المملكة منطقة مجهولة المعالم، تحتاج فيها الشركات الأجنبية إلى وكيل حصري لبيع منتجاتها وتوفير خدمات ما بعد البيع، بل تستطيع تلك الشركات تقديم خدماتها مباشرة أو من خلال نقاط توزيع متعددة، مما سيؤدي إلى تخفيض الأسعار وتحسين مستويات الخدمة

كنتُ في حديث مع الوكيل الحصري لشركة عالمية معروفة، وتركز حديثنا على استدعاء الشركة لبعض منتجاتها في الولايات المتحدة، بسبب خلل مصنعي، وهو إجراء اتخذته الشركة في عدد من الأسواق، ولكن ليس في منطقة الخليج (وقتها). وكان رأي الوكيل أن الشركة تسرعت في الاستدعاء، لأنه لم يكن هناك خلل حقيقي في منتجها، وأنه على جميع الأحوال فإن منتجاتها في الخليج غير مشمولة بالاستدعاء، لأنها خالية من العيوب. ومن حسن الحظ أن الشركة لم تستمع لنصيحته، وأصدرت لاحقاً تعليماتها باستدعاء منتجاتها في منطقة الخليج أيضاَ.
ويمثل موقف هذا الوكيل أسلوب عمل كثير من الوكلاء في المنطقة في عدم التحرك السريع لاتخاذ إجراءات لحماية المستهلك بالسرعة والكفاءة المطلوبتين. ويعود ذلك إلى عاملين، أحدهما الوضع التفاوضي للوكلاء، وسيطرتهم على توزيع المنتج الأجنبي وصيانته وتوفير قطع الغيار. والآخر عدم قدرة الأجهزة الرقابية على متابعة تصرفات الوكلاء.
وليس ثمة موضوع يثير حفيظة الاقتصاديين كالاحتكار، سواء كان صرفاً أو ما يُسمّى باحتكار القلة، لأنه يشوّه آليات السوق ويحد من الحرية الاقتصادية والمنافسة.. وهي عناصر أساسية في الكفاءة الاقتصادية. ويشتكي المستهلكون أيضاً من تصرفات الوكالات وعجزهم أمامها. فمن المعتاد أن تجد أسعار السلع التي يوزعها وكيل حصري، وقطع الغيار، وتكلفة الخدمة أعلى من السلع الأخرى، بسبب عدم وجود منافس حقيقي للوكيل الحصري.
وكلا الفريقين، الاقتصاديين والمستهلكين، يريان ضرورة إنهاء احتكار الوكالات بجميع صوره.
وفي المقابل، يدافع ممثلو الوكالات عنها، ويعارضون محاولات تقييد سيطرتهم على السوق. ويحتجون بأن الوكالات لا تقيد خيارات المستهلك، فباستطاعته اختيار أي منتج من أي وكيل يراه الأفضل، ولكن هذه حجة ضعيفة، فللمستهلك خيارات قبل أن يشتري السلعة، ولكنه بعد شرائها مقيد بالوكيل لصيانتها وتوفير قطع الغيار، لأن الوكيل يستطيع تأخير الإصلاحات وتوفير قطع الغيار وتحديد الأسعار التي يراها. والهدف الأساسي للوكيل، في بعض الأحيان، هو تحقيق المكاسب المادية، وليس خدمة الشركة المنتجة أو المستهلك، فسمعة المنتج لا تهمه كثيراً، لأنه قد ينتقل لتمثيل شركة أخرى، أو قد يكون ممثلاً لعدد من الشركات المتنافسة، كما لا تهمه حماية المستهلك، لأن المستهلك مقيد بشراء السلعة وصيانتها لديه.
وربما لن تستطيع الجهات المختصة إحكام الرقابة على الوكالات، لأن المشكلة في عقود الوكالات نفسها. فعندما تقوم شركة أجنبية بإبرام عقد يمنح الوكيل حقاً حصرياً في توزيع سلعة وخدمتها ضمن منطقة جغرافية معينة، فإنها تحيّد قدرة السوق على التنظيم. فهذه العقود تزيح الضغوط التنافسية التي يمكن أن يواجهها الموزع، وتُضعف آليات السوق التي يمكن أن تدفعه لتحسين خدمته وخفض أسعاره.
وفي كثير من النظم القانونية ما زال مثل هذه العقود الحصرية ممكنا، كما أن الشركات الأجنبية ترى من مصلحتها الدخول في اتفاق حصري مع مؤسسة تعرف السوق المحلية أكثر. وأحياناً تكون تلك الشركات مُلزمة قانوناً أو عُرفاً بإبرام تلك الاتفاقات.
وفي المملكة العربية السعودية يذكر عبدالله فيلبي أنه كان أول وكيل تجاري، حين أقنع شركة (فورد)، منذ نحو (90) عاماً، بإبرام اتفاق لبيع سياراتها في المملكة، محققاً أرباحاً طائلة من خلال معرفته بالسوق المحلية. ولكن الأمور تغيرت كثيراً منذ أيام فيلبي، فلم تعُد المنتجات العالمية المشهورة بحاجة إلى اتفاقيات توزيع حصرية لتسهيل نفاذها للأسواق المحلية. بل إنها قد تخسر من خلال ذلك، فلربما تنجح بعض المنتجات في البيئات الاقتصادية التنافسية أكثر من نجاحها في الأسواق التي تتعامل من خلال وكيل حصري، مما يؤدي إلى فقدانها لحصتها في السوق، وهو ما يدفع بعض الشركات لتغيير وكلائها أحياناً.
خدمة ما بعد البيع هي الحجة الأخرى التي يشير إليها المدافعون عن الوكالات الحصرية، بسبب الحاجة إلى خبرة الوكلاء الحصريين في القيام بالإصلاحات. ولكن ليس ثمة دليل مقنع بأن احتكار خدمة ما بعد البيع ضروري لضمان مستوى عال للخدمة. وأذكر حين عشتُ في مدينة نيويورك، لعقدين من الزمن، وجود عشرات الموزعين المرخصين، لكل منتج مشهور، سواء كان سيارة أو جهازاً كهربائياً أو إلكترونيا، وكان مستوى الخدمة عالياً، لأن كل موزع يرغب في جذب العملاء، عن طريق تقديم أفضل الخدمات وأقل الأسعار. وكانوا جميعاً مقيدين باحترام ضمان الشركة المصنعة ومعايير الخدمة التي وضعتها. وفي الوقت نفسه كان هناك تواجد مستقل للشركة المصنعة، يوفر قطع الغيار ويراقب مستوى الخدمة من قبل الموزعين وورش الإصلاح. وفي المملكة أصبحت رقابة وزارة التجارة والصناعة في المملكة أكثر حضوراً ومتابعة خلال الأشهر القليلة الماضية، ولكن ما زال هناك الكثير مما ينبغي القيام به. وبالطبع فإن الوزارة ملزمة بالعمل من خلال الإطار التنظيمي القائم حالياً والذي يسمح بإبرام اتفاقيات حصرية، ولكن من خلال هذا الإطار ثمة الكثير مما يمكن عمله. إذ يمكن أن تكون هناك متابعة أكثر لحالات الاستدعاء التي تقوم بها الشركات المصنعة، لضمان تعميمها داخل المملكة بسرعة وتوعية المستهلكين بها، ومراقبة تقيد الوكالات بها.
ومن ناحية أخرى، من المفيد التنسيق أكثر مع الأجهزة المختصة في الدول الأخرى، لمعرفة القضايا التي تتابعها، للمساهمة في الضغط على الشركات المصنعة لتسريع الإجراءات اللازمة لمعالجتها، خاصة القضايا المتعلقة بالسلامة وصحة المستهلك. ومن المهم كذلك، توفير عدد أكبر من المفتشين المتخصصين، وتوفير خطوط ساخنة يستطيع المستهلكون من خلالها تقديم شكاواهم على مدار الساعة.
أما الحل الجذري فمن خلال مراجعة الإطار التنظيمي الحالي للنظر في حظر الاتفاقات الحصرية، وهو ما قام به كثير من الدول، وتوفير المنافسة في تمثيل الشركات الأجنبية وخدمة منتجاتها وتوفير قطع الغيار. فالمملكة لم تعد منطقة مجهولة المعالم، تحتاج فيها الشركات الأجنبية إلى وكيل حصري لبيع منتجاتها وتوفير خدمات ما بعد البيع، بل تستطيع تلك الشركات تقديم خدماتها مباشرة أو من خلال نقاط توزيع متعددة، مما سيؤدي إلى تخفيض الأسعار وتحسين مستويات الخدمة.