الكثير منا قد يفاجأ بتصرفات البعض، أو التغير الصادم في المشاعر لدى من كنا نعتقد أن معزّتنا لديهم لا يمكن أن تتأثر بأي اختلاف سواء كان فكرا أو موقفا، وقد يحصل لدينا تشويش ونحن نحاول أن نحدد الأصيل من المزور بين البشر
قدمت يوما إدارة دوت كوم قاعدة توضح من خلالها تميزها في تقديم الخدمات لزبائنها. وكلما تأملت أكثر في تركيبتها، وجدت أمثلة كثيرة من الحياة يمكن أن نطبق عليها هذه القاعدة، خاصة في أيامنا هذه. وعرضي لها اليوم لا لشيء أكثر من أنها قد تساعدنا على فهم بعض السلوكيات الفردية أو الجمعية، الاجتماعية والسياسية، لأنه متى فهمنا... حق فهمنا، فلن نتفاجئ.. فلقد شبعنا مفاجآت بل سئمناها، وأعصابنا لم تعد تتحمل!
تقوم القاعدة على ثلاث دوائر شعورية تؤطر حياتنا؛ ماذا، كيف، ولماذا.. الأولى دائرة ماذا البرونزية الخارجية، والثانية دائرة كيف الفضية الوسطية، والثالثة دائرة لماذا الداخلية الذهبية أي الجوهرية؛ بمعنى إن عمل المرء فقط من أجل المال أو السلطة، فلن يساعده إلا من يبتغون أمواله أو المستفيدون من سلطته، وسيتركونه فورًا لصالح من يدفع أكثر أو يفيدهم بسلطته أكثر. وإن عمل فقط من أجل التقنية والمنافسة والمظاهر البراقة والنفخة الكذابة، فسوف يفقد حماسه ويتبلد إحساسه ويتخلى عن شغفه وحلمه، وقد يتخلى حتى عن علمه.. وهناك من يعمل في كل شيء، ويجرب كل شيء، من أجل كل شيء، فيلمع مثل البرق، الذي سرعان ما يصمت رعده، ويتخلى عن طريقه، وبالتالي سيفقد ثقة من حوله ويخسرهم، لأنهم لم يستشعروا لماذا يقوم بما يقوم به، فلكي يكون المرء قائدا ويلهم ويؤثر يجب أن ينبع سلوكه من داخله، حتى يدخل ضمير الناس، أي بتواصل صادق أصيل وروحي.
الكثير منا قد يفاجأ بتصرفات البعض، أو التغير الصادم في المشاعر لدى من كنا نعتقد أن معزّتنا لديهم لا يمكن أن تتأثر بأي اختلاف، سواء كان فكرا أو موقفا، وقد يحصل لدينا تشويش ونحن نحاول أن نحدد الأصيل من المزور بين البشر، فبين زخم المعلومات أو حتى الخدمات والمنتجات والإعلانات، أصبحنا كمن يبحث عن إبرة في كومة من القش! ولكن حقيقة لو أننا توقفنا وتمعّنا بـلماذا لكل حدث، لاستطعنا على الأقل أن نفسر الكثير، بل غالبية ما يصادفنا على مدار اليوم والساعة، مما يولد لدينا قوائم من التساؤلات بلا إجابة، بل قد تساعدنا في أن نتوقف لنحلل بأنفسنا بدلا من أن نتحمل تفسيرات وتبريرات أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها تدخلنا في متاهات لها أول وليس لها آخر، ونحن بالكاد نرى الضوء القادم من نفق الحياة الضبابي!
هل أضعتكم؟! لنأخذ ناديا ثقافيا في مدينة ما، لو أردنا أن نعرف ماذا يفعل نستطيع أن نتعرف على ذلك من خلال قراءة أهداف ورسالة النادي، أما كيف تتضح لنا من خلال متابعة أعمال النادي في مجتمعه المحلي، وقد تكون اللجنة الإدارية تقوم بالعمل على عدة جبهات، منها ترجمة الكتب العالمية التي تعنى بالمجال الثقافي وطباعتها وتوزيعها على المدارس والجامعات والمكتبات العامة والجمعيات والسجون والإصلاحيات، بمعنى إلى كل مكان يحتوي على تجمع بشري من أي نوع كان، وتقيم أيضا المعارض لتشجيع الفنانين الجدد. وللارتقاء بالوعي الفني لدى الجمهور المحلي تقيم معارض لفنانين قدامى وجدد، كما تجري الحوارات والملتقيات والمحاضرات لشخصيات ثقافية محلية وعالمية، بحيث تكون دائما الدعوة عامة ومجانية للجميع. وبين الفعاليات تعمل على التواصل مع المدارس في منطقتها أو مدينتها، بأن ترتب زيارات دورية للأدباء والكتاب والمفكرين المحليين، إلى المؤسسات التعليمية والرياضية والاجتماعية، ولكن إذا أردنا أن نقييم أعمالهم من أنها مجرد أجندات وكتيبات توزع، أي مجرد حبر على ورق للإبهار ليس إلا، أم إنها تقام فعلا على أرض الواقع من خلال التنفيذ، فسنجد أن من يحركها هو الرؤية الجمعية لدى جميع منسوبيها، لما تحتويه لماذا من نبل ونقاء المحفز، وإن فُقد هذا العامل فقد ثقة الجمهور المستهدف، وسنجد أن النادي كغيره الكثير اسم ومكان، وبعض المنتسبين المتصارعين على المراكز أو الظهور!
لنأخذ مؤسسة إعلامية ما، إن أردنا أن نتعرف على ماذا، أبسطها نقل الأخبار وإبقاء المجتمع المستهدف على معرفة بالأحداث التي تهمه، إما للحماية وإما للارتقاء، وكل ذلك يرافقه مواضيع للتثقيف والترفيه، والآن إن أردنا أن نعرف كيف فسنجد أن ذلك يعتمد على نوعها؛ مرئية أو سمعية أو ورقية أو تفاعلية على النت. ولن أتعمق بهذه النقطة، فهي واضحة للجميع، فلا يوجد أحد منا ليس له خبرة مع أكثر من نوع من المؤسسات الإعلامية وكيف تُفعل أهدافها ورسالتها. ونصل هنا إلى لماذا، إن تعرفنا عليها فسيتضح لنا أهمية أو تفاهة، صدق أو تزوير، ريادة أو تبعية، هذه المؤسسات، وبالرغم من السلبيات، وعلى كثرتها. إن لماذا تعرفنا أيضا على نوعية النجاح أو الفشل، من خلال التأثير السلبي أو الإيجابي على الجمهور المستهدف، وأيضا على المستوى المادي، أي في استقطاب الإعلانات التجارية، ولكن الأهم وعلى المدى البعيد ثقة الجمهور.
أما على صعيد التواصل الإنساني بين البشر، فنرى كثيرا ماذا و كيف، ولكن كثيرا ما يخفى علينا لماذا، وهنا نقع ونحكم ثم نفاجأ أن حكمنا كان في غير محله.. إما نَظلم أو نُظلم! ولكن لكيلا نقسو على أنفسنا، من منا لديه الوقت أو حتى القدرة على البحث عن هذه الـلماذا عند كل من نقابله؟ نُفضل أن نبني علاقتنا العامة وحتى الخاصة على مبدأ على السكين يا بطيخ أو أنت وحظك! فقيمة الأصيل تنبع من الداخل، تتعرف عليها مع الاحتكاك والمواقف، والبشر لا يأتون مع دليل تواصل، ثم من لديه مهارة أو موهبة التنبه والرؤية الثاقبة التي ترى ما داخل القلوب من أول لقاء، فأحيانا كثيرة حتى أصحابها لا يعرفون ما بداخلها! وطوبى لمن يرى ما بدواخلنا ويبني عليها إن كانت أصيلة، ويحتويها ويمدها بالنصيحة والعون إن كانت مضطربة أو مضروبة.