يُمكن أن تحبط الواسطة جميع محاولات الإصلاح، مهما كانت جادة، فضلاً عن تأثيرها على الكفاءة الاقتصادية، وإضعاف أي حافز لتطوير الذات، وبدلاً من ذلك تعزز الانتماءات القبلية والمناطقية والمذهبية، على حساب الانتماء للوطن
يعتقد كثير من المواطنين أنهم بحاجة إلى الواسطة لإنجاز أي أمر من أمورهم لدى الدوائر الحكومية، وحتى لدى الشركات والبنوك، وهذه الواسطة إما شخصية مؤثرة أو أحد أقارب أو أصدقاء أو معارف صاحب القرار. ومثل هذا الاعتقاد دليل واضح على ضعف الثقة في الأنظمة وحيادية المسؤولين عن تنفيذها، أو تعبير عن الأنانية والرغبة في الاستثناء من القانون.
وعلى الرغم من تأكيدات المسؤولين أنه لا مكان للواسطة في أي قرار يتخذونه، فإن هذا الانطباع متأصل. وسأحاول اليوم استكشاف السبب في ذلك، وتناول الآثار السلبية للواسطة على انتشار الفساد الإداري، وكفاءة الاقتصاد، والانتماء الوطني.
وفي الدولة الحديثة من المفروض أن يستطيع المواطن إنجاز معظم معاملاته دون أن يزور دائرة حكومية، وفق إجراءات وقوانين منشورة ميسرة، وفي حالة القضايا الشائكة والخلافية يمكنه الاستعانة بمحام متمرس يساعده على حل بعض القضايا الشائكة والمعقدة ويقوم بمخاطبة الدوائر الحكومية نيابة عنه مستنداً في ذلك إلى النصوص القانونية ذات العلاقة، وفي حالة عدم التوصل إلى حل ودي، يمكن أن يلجأ المواطن من خلال محاميه إلى القضاء.
ولكن لا مكان للنصوص القانونية في الإدارة التي تعتمد على الواسطة، التي هي نقيض المنهج القانوني الذي يفترض المساواة في المعاملة بين المواطنين أمام القانون، وتعتمد بدلاً من ذلك على النفوذ والقدرة على التأثير في مجريات الأمور، بحق أوبغير حق.
وأذكر عندما عدتُ إلى المملكة منذ نحو عشر سنوات، أنني كنتُ أسأل قبل مراجعة أي دائرة حكومية أو شركة خاصة أو عقد اجتماع في أي شأن: ما هو حكم القانون أو النظام في الموضوع؟ وكنت أسعى إلى الحصول على النص القانوني، وتفسيراته، وأحكام القضاء بشأنه، لكي أتسلح بها لمواجهة الموقف.
وكان رد الفعل على هذه التساؤلات غريباً بعض الشيء، إذ نادراً ما كنت أجد من يعرف الحكم القانوني، ولكن الأغرب من ذلك أن معظم من سألتهم اعتبروا السؤال ساذجاً أو حذلقة لا داعي لها، لأن الأمور تسير وفقاً للمعرفة والواسطة والأعراف السائدة، ولا حاجة إلى استدعاء الذخيرة القانونية.
ولم أستطع قبول هذه المواقف التي اعتبرتها متهاونة لا تتناسب مع متطلبات الدولة الحديثة. وسعيتُ بشتى الطرق إلى الحصول على النصوص القانونية التي تتعلق بالمواضيع المختلفة التي تواجه المرء في العمل والحياة اليومية. وللحصول على تلك النصوص، زرتُ المكتبات ومطبعة الحكومة ومكاتب المحامين، واستخرجت بعضها من مخزونات كمبيوترات بعض الدوائر الحكومية.
واجتمعت لدي بعد فترة وبشيء من الصعوبة حصيلة من النصوص النظامية، إلا أنني اكشتفت فجوات كثيرة لم أجد أي نصوصٍ تنظمها، سواء من النواحي الإجرائية أو الموضوعية، وفي حالات أخرى وجدت إشارات إلى بعض اللوائح والأنظمة إلا أنني لم أتمكن من الحصول على نسخ منها.
كان ذلك في عام 1999م، قبل انضمام المملكة العربية السعودية إلى منظمة التجارة العالمية، وما تطلبه ذلك من ثورة قانونية تمثلت في تبني كثير من القوانين الجديدة، التي تغطي الكثير من المجالات، كما كان قبل انتشار الإنترنت وتوفر نصوص كثير من الأنظمة على الشبكة.
ومع أن الوضع القانوني في عام 2010م يختلف كثيراً عما كان عليه في 1999، إلا أن ذلك لم يحد من استمرار الاعتماد على الواسطة، فماهي الأسباب؟
قد يكون استمرار أسلوب الواسطة عائداً إلى جهل المواطن بالخطوات الإصلاحية الكبيرة التي خطتها المملكة مؤخراً، أو عدم قناعته بحيادية المسؤولين عن تنفيذها. ولكن استمرار الواسطة قد يكون كذلك عائداً إلى أن بعض الموظفين يستفيد من بقائها، لأنها وسيلتهم للنفوذ وربما للفساد الإداري. فحين تكون الإجراءات واضحة وشفافة، وتكون معاملة المواطنين متساوية، ولا يجوز تقديم أحد منهم على غيره... إلخ، فإن سلطة الموظف ستكون محدودة. أما حين يكون هناك مجال للموظف للتدخل، أو على الأقل إعطاء الانطباع للمواطن بأنه يستطيع تجاوز القانون، أو تفضيل مواطن على آخر، فإن ذلك يتيح له فرصة طلب مقابل لمثل هذه الخدمات التي قد تكون مزعومة في الحقيقة.
ومن هنا فإن الواسطة يُمكن أن تحبط محاولات الإصلاح، مهما كانت جادة، فضلاً عن تأثيرها على الكفاءة الاقتصادية، لأن رسوخ مبدأ الواسطة في ذهن المواطن يُضعف أي حافز له لتعزيز مهاراته وتطوير ذاته لتحقيق طموحاته، وبدلاً من ذلك يعزز علاقاته الاجتماعية وانتمائه القبلي أوالمناطقي أوالمذهبي. ومن هنا يأتي التأثير السلبي على لحمة الوطن وسداه، بل على الانتماء للوطن الذي يفترض المساواة في المعاملة بين المواطنين، وهو نقيض مبدأ الواسطة.