ما أثار غضب الأميركيين أن العمل البربري من أحد قادة المعارضة الميدانيين يصب في مصلحة النظام السوري، أي لو لم يكن هذا العمل المتوحش يصب في مصلحة النظام لما كلفوا أنفسهم عناء ذكره ناهيك عن شجبه!
يكاد يتفق علماء اللغات على أن اللغة مراوغة بطبيعتها، ناهيك عن اللغة الدبلوماسية، التي تعبر بها الحكومات عن مواقفها تجاه حدث ما أو قضية ما. خاصة حينما تجد الحكومة نفسها فجأة مضطرة للتعليق عليه، على سبيل ذر الرماد بالعيون، أو تسجيل موقف لا غير، يبعد عنها تهمة التهاون تجاه انتهاك مبدأ من المبادئ الإنسانية أو السياسية، التي تؤمن وتنادي بها وتعتبر نفسها حامية لها. من المفترض أن اللغة الدبلوماسية توضح أكثر مما تخفي؛ ولكن غالباً ما تكون اللغة الدبلوماسية تخفي أكثر مما توضح، حتى ولو وضحت في قليل من الأحيان. يعتبر الدبلوماسي المتمكن هو من يعبر عما يريد من دون أن يمسك عليه أي إدانة في ذلك. أداة الإنسان للمراوغة عما فعل أو يريد فعله، بشكل عام هي اللغة، وهي أداة الدبلوماسي بالشكل الأخص.
هنا سأطرح حادثة وحشية وشنيعة وغير مبررة، بأي حال من الأحوال، لم تحدث لدينا سوى مرة واحدة وفي الجاهلية فقط، وتم ارتكابها ثانية، وللبكاء الشديد، وليس للأسف الشديد، في منطقتنا وفي سورية المنكوبة بالتحديد. والتي تحولت أرضها الآن، ولسوء حظ طالع أهلنا فيها، بفضل الصراع الدولي والإقليمي السياسي والاقتصادي والاستراتيجي والمذهبي الشرس، الدائر على أرضهم الطيبة الطاهرة، إلى أكبر مسلخ بشري على وجه الأرض. وتحويل أرضهم بما تحتويه من أشلائهم المتقطعة والمتطايرة والمتعفنة، وحتى الكامنة أيضاً بسلام في قبورها، إلى مختبر دولي عاهر للجزر والذبح والتقطيع والنبش وبث الرعب ونشر الهلع في قلوب أهلها الطاهرة، لتمرير أجندات غاشمة عليهم، كانوا يأبون تمريرها أو الخنوع لها.
الحادثة التي فجعت كل من يحمل في قلبه ولو ذرة من الإنسانية والتحضر، هي جريمة قيام أحد قادة المعارضة المسلحة في سورية بتقطيع أوصال جثة جندي من الجيش السوري النظامي والتهام قلبه وكبده، وتصوير فعلته الشنيعة جداً بكل المقاييس والمعايير القانونية والدينية والإنسانية، وبثها على شبكات التواصل الاجتماعي، دون خوف أو وجل، لا من الله ولا من الدول والمنظمات الدولية التي تطرح نفسها راعية وحامية للقانون الدولي وحقوق الإنسان، بما تمثله كآخر ما توصلت إليه البشرية من قيم حضارية وإنسانية، ومن رقي وتقدم وتحضر. هذه ليست الجريمة الوحيدة الشنيعة والبشعة، التي ارتكبت وما تزال في حق أهلنا المروعين في سوريانا الطاهرة؛ ولكن أخذت هذه الحادثة بالتحديد، ليس لبشاعتها فقط، ولكن لبشاعة ردود الفعل الدبلوماسية الدولية عليها. وخاصة ردة فعل الحكومات الغربية، وذلك لكونها دوماً وأبداً تطرح نفسها الحامية والمؤتمنة على حقوق وقيم الإنسان والحاضنة والرافعة والدافعة لقيم الحضارة الإنسانية الحديثة.
وعلى حسب ما نقتله صحيفة الجزيرة من بيان ردة الفعل الدبلوماسي الأميركي، على جريمة التوحش أتت كالتالي: قالت حكومة الولايات المتحدة بأنها أصيبت بالهلع بعد مشاهدتها لمقطع فيديو مصور يظهر فيه أحد قادة المعارضة السورية وهو يأكل قلب وكبد أحد عناصر الجيش النظامي بعد قتله..، هذا الكلام الذي ورد، يخفي داخله أكثر مما يظهر. حيث يتم وصف الجاني، بأنه أحد قادة المعارضة السورية، ومن المعلوم أن الحكومة الأميركية أحد الداعمين والمدافعين الرئيسيين عن المعارضة السورية المسلحة منها والراعين لها. ووصف البيان الدبلوماسي الأميركي المجني عليه، الجندي صاحب الجثة الممثل بها، بعنصر من الجيش النظامي، فهذه مصيبة. حيث استخدام مفردة عنصر تقلل من وقع الجريمة، خاصة كون الإنسان اعتاد على استخدام مفردة عنصر، للمواد غير الحية، مثل الكيميائية والفيزيائية وغيرها. إذاً سحب صفة البشرية من الجندي صاحب الجثة الممثل بها، هو من الممكن بأن يكون مسوغا للتمثيل بها لا لتجريم ذلك، كونها مادة وليست بشرية. خاصة كون الجاني، كما ورد في البيان أحد قادة المعارضة، فللمعارضة عادة صفة الإعجاب والتطهير وعليه غض الطرف عن الجاني.
وكذلك تم في البيان استخدام مفردة هلع عندما وردت كالتالي: .. حكومة الولايات المتحدة أصيبت بالهلع بعد مشاهدتها..ماذا تعني مفردة الهلع؟ مفردة الهلع هنا تعني الإسقاط في اليد والحيرة جراء ذلك. فمن يصاب بالهلع، لا يجب التوقع منه بأن يقوم بردة فعل. فلو كانت الحكومة الأميركية صادقة في إدانتها للعمل الذي وصفته بالوحشي، وتنوي فعل شيء جاد تجاه من ارتكبه، لذكرت في البيان أنها صدمت أو صعقت، وهذا يتطلب منها ردة فعل جادة ومؤكدة، تجاه هذا التوحش والإرهاب الصاعق وغير المبرر. وبما أنها لا تنوي فعل شيء تجاه هذا النوع من الإرهاب والتوحش فقد استخدمت مفردة هلع لا غير.
وقال المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الأميركية باتريك فينتريل: إن مثل هذه الأعمال الطائفية الوحشية تشكل انتهاكا صريحا للقانون الإنساني الدولي وتصب مباشرة في مصلحة النظام.. وأضاف: لقد أثرنا هذا العمل الشنيع في محادثاتنا الأخيرة مع قادة المجلس العسكري الأعلى (للمعارضة السورية)، الذين أكدوا لنا أنهم لا يساندون مثل هذه الأعمال، وأن هذا لا يمثل الغالبية العظمى من المعارضة المسلحة... انتهى بيان الخارجية الأميركية مثل ما هو متوقع، بدون مطالبة بإحضار المجرم البشع للعدالة، ولا حتى عدالة المجلس العسكري الأعلى، الذي يسندونه ويدعمونه، ولهم عليه الكلمة العليا.
وهنا برغم غضب المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية وتباكيه على الانتهاك الصريح للقانون الإنساني الدولي، إلا أنه أعلن أن ما أثار غضبهم أن العمل البربري والوحشي يصب في مصلحة النظام، أي لو لم يكن هذا العمل المتوحش، يصب في مصلحة النظام، لما كلفوا أنفسهم عناء ذكره ناهيك عن شجبه والحديث عنه! ولرفع العتب عن النفس، ذكر (فينترل) تعليقه التالي: بأن المجلس الأعلى للمعارضة المسلحة، أكدوا لنا بأنهم لا يساندون مثل هذه الأعمال، وأن هذا لا يمثل الغالبية العظمى من المعارضة المسلحة. وهل يتوقع الدبلوماسيون الأميركيون، بأن يقول لهم قادة المجلس الأعلى للمعارضة المسلحة بأنهم يؤيدون أو يساندون مثل هذه الأعمال؟! وهل طلب الأميركيون منهم بأن يلقوا القبض على المتوحش الجاني ويحاكموه؟ والذي هو أحد قادتهم الميدانيين. هراء في هراء لا يستقيم لا مع المنطق ولا العقل ولا حتى مع الفطرة السليمة والسوية.
عندما أنهيت كتابة مقالي هذا، ورد في الأخبار بأن شابين متوحشين، قاما بتقطيع جسد جندي بريطاني بسواطير وهو حي يرزق وليس جثة هامدة، وفي وسط عاصمة بريطانيا العظمى لندن وعلى قارعة الطريق وفي وضح النهار، وهما يرددان الله أكبر، ويطلبان من المارة تصويرهم. ويجب أن نتوقع، وللبكاء الشديد، مثل هذا وأكثر عندما يتم استخدام قيم الدين ومبادئ حقوق الإنسان، فقط من أجل تمرير أجندات وأطماع لا صلة لها لا بالدين ولا بحقوق الإنسان لا من قريب ولا من بعيد.