أكدت الدراسات خطل الاعتماد على الخيارات الأمنية في مواجهة الإرهاب باعتباره نتيجة وليس سببا، إذ السبب يتعلق بالتطرف وعلاقاته الوثيقة بمستوطنات الإسلام السياسي ذي الخبرة في التمويه والمواربة

قلنا إن التطرف والإرهاب صنوان يكمل أحدهما الآخر في سياق من جدلية نمو الأشياء وترابطها، فالفكرة المتطرفة تبدأ على صورة أحكام قطعية تعمل في نطاق فرز المجتمع إلى إطارين مع أو ضد، وهي لا تقبل القسمة خارج معادلة الجاهلية أو الإسلام، كما هو حال الجماعات المتطرفة في الديانات السماوية، وقريباً من ذلك دوغما الأيديولوجيا الوضعية.
تنشأ معادلة الجماعات المتطرفة على قطعية الحكم الجاهز والمسبق وتتأسس أحيانا تبعا لمفاهيمها الانطوائية.. والآخر في رأي هذه المفاهيم ليس بالضرورة من معتنقي الديانات المخالفة ولا أيضا القوى الاجتماعية ضعيفة الصلة بالقيم الروحية، ولكنها – المفاهيم – تشمل المجتمع المتدين بالفطرة من جنسها، إذ إن إيمانه بالكليات العقدية لا يدفع عنه الأذى طالما لا يقبل الدخول تحت رايتها والالتزام لخياراتها.
تتخطى فكرة التطرف مرحلة التبشير إلى التنظير، فالتملك الوجودي وفي آخر مراحلها من التقاطع والفرز وانسداد الأفق وتحت ضغط وتأثير معطيات التطور تجد نفسها رهن خياري السلاح والاستباحة لفرض قناعاتها وصولا نحو ما تعده حقها المطلق في الخروج على طاعة الدولة العلمانية وإقامة دولة الخلافة، والأخيرة تشق طريقها إلى الواقع عبر مراحل ثلاث، التكفير ثم التفجير وأخيرا التمكين من عنق المخالف ويد الجائع المدقع.
لقد تطلبت الأجندات الأميركية استشراف الأفق المستقبلي للخطر، وكان من أهم تدابيرها استدراج المكون السياسي الرئيس لجماعات وبؤر التطرف للوقوع في المستنقع الأفغاني بدواعي إسقاط راية الإلحاد، وهناك اكتشف الجهاديون بعد طول عناء أن فريضة الجهاد بفتيا أميركية وتمويل عربي مؤقت يفسد الوضوء ليعودوا إلى الجهاد إنما نقيض وجهتهم السابقة.
وإذ لا تزال أحداث 11 سبتمبر 2001 البشعة محل التباس لجهة المستفيد الحقيقي وراءها، إلا أن القاعدة اعتبرتها محطة إشهار بوجودها وقد كان.
ومنذ سبتمبر 2001 امتزجت مياه كثيرة بالدم الغزير من ضحايا التطرف ولحق المئات من الأبرياء أضرار جسيمة، على حين أكدت الدراسات خطل الاعتماد على الخيارات الأمنية في مواجهة الإرهاب باعتباره نتيجة وليس سبباً، إذ السبب يتعلق بالتطرف وعلاقاته الوثيقة بمستوطنات الإسلام السياسي ذي الخبرة في التمويه والمواربة.
والآن يمكن القول بأن الهدف الأبرز من أهداف الحرب على الإرهاب يتمثل في تجفيف منابع التمويل المالي للقاعدة خاصة، أو ما يوصف بالغطاء السياسي المنتـج ثقافـة التطـرف عمومـاً.
ومن هذه الزاوية نناقش مستجدات الخروج على النص، حيث تفاجأ السلطات اليمنية بعملية اختراق أمني اقتحمت جدار العلاقات الثنائية بين الدول وضوابطها المعلومة وأمكنها التفاوض المباشر مع قيادات القاعدة لتنتهي بالإعلان عن تحرير عدد من الرهائن وحصول الإرهابيين على الدعم المطلوب لا الفدية المطالب بها.
قد لا تستوقفنا الحالة الأخيرة من عملية الاختراق لارتباطها بجهة لم تكن يوماً طرفاً في نزاع إقليمي ولم تتورط مرة واحدة في البحث عن الشهرة عبر التدخل في سيادة الدول وشؤونها الداخلية، بيد أن الواجب يدعونا لاعتبار المفاوضات الأولى مع القاعدة سابقة شجعت على تاليتها، وهي لا شك أسست لهذا النمط من التدخلات الأمنية المنفلتة ما يستحث المراقبين على إثارة التكهنات عما إذا كان ثمة ارتباط خفي بين هكذا اتصالات غرائبية والسياسات الأمريكية المكرسة لاستقطاب الأصوليات الدينية وإيصالها مرحلة التمكين، أم هي مجرد محاولة لاختبار الحساسية اليمنية من الاستعراضات الدنكوشية المتخمة فوق عرش بلقيس؟
ويبقى السؤال مثاراً.. ما النتائج المتوقعة من سياسات الإذعان لمطالب القاعدة، أقصد هل ستتحول عمليات الخطف في بلد بمثل ظروف اليمن الاقتصادية إلى وظيفة سهلة تستهوي جماعات السلاح من غير القاعدة؟
وإذن سيكون علينا التأهب استعدادا لنذير شؤم قادم ربما امتد إلى أرجاء أخرى غير اليمن، لأن الظواهر السلبية تبدأ في نطاق محدود ثم تتسع وتطرد خبراتها على نحو لم يكن محسوباً.
وفي حال صحت هذه التكهنات فسيكون الأنسب من الخيارات تمويل القاعدة دون الحاجة لغطاء ممجوج يبرر تقديم الأموال بالحرص على افتداء البشر وفقا لمعايير انتقائية يستحيل تفهمها، وإلا فلماذا أفلحت الجهود الخيرة في الوصول إلى أهدافها وتحرير الضحايا الأجانب!! فيما لا يزال الدبلوماسي السعودي تحت قبضة خاطفيه من تنظيم القاعدة ولم تستوعبه أهداف الوساطة؟ ليكون لسان الحال قول الشاعر..
(أشكو العروبة أم أشكو لك العربا).