المثقف المصارع يبحث عن ذاته ويريد إثباتها وهذا سلوك طبيعي، ولكن اللافت أن إثبات الهوية هنا يأخذ طبيعة صراعية ويشكل ما يمكن تسميته بالهوية التي تتأسس على الصراع مع الآخر

من أولى الملاحظات على سلوك المثقف المصارع هو انشغاله بإصدار الأحكام أكثر من انشغاله بعقلنة تلك الأحكام. بمعنى أن طاقته وحماسته تنصب على الحكم الذي يصدره غالبا على الآخرين أو على أفكارهم أكثر من عقلنة هذه الأحكام والحجاج لها. مع المثقف المصارع تسمع عبارات كثيرة من نوع هذه الفكرة تجاوزها التاريخ هذه الفكرة خاطئة، هذه الأطروحة خطيرة ومدمّرة، فلان يهرف بما لا يعرف، فلان عدو للحقيقة، الأمة.. إلخ لكنك ستسمع قليلا عن عقلنة لهذه الأحكام. بمعنى أن المثقف المصارع لا يتحمس للجواب على سؤال لماذا يطارد أحكامه بقدر حماسه لإصدار هذه الأحكام. في هذه المقالة سأحاول فهم هذه الحالة من خلال وصف العلاقة بين الفرد والآخرين خلال ممارسة العقلنة، وعلاقته بهم في حالة إصدار الأحكام.
التركيب البسيط للمحاجّة أو الرأي أنها تتكون من جزأين رئيسيين: مقدمة ونتيجة. الرابط بين المقدمة والنتيجة هو ما يسمى بالعقلنة، أو بعبارة أخرى المنطق الذي جعل من النتيجة مرتبطة بالمقدمة. النتيجة هنا هي الحكم الذي يشتغل به المثقف المصارع، والمقدمة والعقلنة هي الجزئية التي تغيب في خطاب هذا المثقف. على سبيل المثال خذ هذه المحاججة الكلاسيكية التي تريد إثبات أن سقراط الفيلسوف يموت. المقدمات: 1- كل إنسان يموت. 2- سقراط إنسان. 3- إذن (النتيجة) سقراط يموت. هذه المحاججة تصنّف منطقيا باعتبارها محاججة استنباطية بمعنى أن النتيجة تستنبط ضروريا من المقدمات. النوع الثاني هو المحاججة الاستقرائية من نوع: مقدمات:
1- غالبا تتكاثر الأوبئة في المستنقعات القديمة. 2- في قريتنا مستنقع قديم. 3- إذن (النتيجة) في قريتنا أوبئة. ما أريد التأكيد عليه هنا هو أن الحكم أو النتيجة ليس له معنى أو قيمة بدون العقلنة التي أدّت إليه وبدون كشف المقدمات التي استند عليها. بمعنى أن الحكم يأخذ قيمته فقط من مقدماته ومن المنطق الذي أوصل إليه. خارج هذه الدائرة، الدائرة العقلانية التواصلية، يأخذ الحكم قيمته فقط من شخصية صاحبه أو من التقاليد السائدة. غالبا في هذه الحالة تتشكل علاقة قوية بين الحكم وذات صاحب الحكم وهذا ما نلاحظه مع المثقف المصارع حين تتماهى الحدود بشكل كبير بينه وبين أحكامه.
ما أريد فهمه هنا هو سبب كثرة حضور الأحكام في خطاب المثقف المصارع وانخفاض حماسه لعقلنة هذه الأحكام. أولا يمكن القول إن عقلنة الخطاب تنتمي لمزاج تواصلي لا يستمتع به المثقف المصارع. العقلنة هي في جوهرها إعلان لفصل الحكم عن قائله. بمعنى أن الباحث بسرده للحجج والبراهين يراهن على أن القارئ يمكن أن يصل بجهده الشخصي للنتيجة التي وصل لها الباحث. العقلنة بهذا المعنى هي انفتاح على كل الناس أو على الأقل على شريحة عريضة منهم باعتبار أن الوصول للحكم لم يعد أمرا خاصا بالباحث بقدر ما هو مجال مفتوح للآخرين. الباحث هنا يشبه عابر الطريق الذي ربما كان له حسنة العبور الأول لكنه في ذات الوقت يعلن أن عبور الطريق مفتوح للآخرين متى ما أعطوا الطريق اعتباره. بهذا المعنى فإن العقلنة تواضع وموقف أخلاقي متسامح. الباحث بعرضه لبراهينه يعطي الآخرين المفاتيح الضرورية للحكم على حكمه، أي أنه بالعقلنة يضع نفسه في ساحة مفتوحة للنقد والاعتراض.
العقلنة أيضا تضطر المثقف المصارع للعملية التي لا يحبذها بل ينفر منها وهي عملية الإحالة إلى معايير مشتركة وعدم الإحالة إلى الذات. في هذه المساحة لا يتواجد المشتغلون بذاوتهم دون الآخرين والمهمومين بها قبل أي شيء آخر. في هذه المساحة لا يحضر المنغلق على ذاته باعتبار أن العقلنة والمحاججة هي انفتاح ومشاركة. مع العقلنة يمكن أخذ الحكم وبراهينه ومناقشتها بعيدا عن صاحبها. المثقف المصارع لا يريد أن يسلّم أحدا الوسيلة التي يمكن أن تعزل حكمه عنه. هنا يمكن أن نقترب من المثقف المصارع أكثر لنلاحظ جانبا نفسيا مهما في نشاطه. المثقف المصارع يبحث عن ذاته ويريد إثباتها وهذا سلوك طبيعي، ولكن اللافت أن إثبات الهوية هنا يأخذ طبيعة صراعية ويشكّل ما يمكن تسميته بالهوية التي تتأسس على الصراع مع الآخر. هذه الهوية هشّة ولذا فهي تضطرب كثيرا من حالة التشابه مع الآخرين لتفتعل حالة اختلاف مرضية ومتوهّمة.
الاختلاف هو حالة جزئية من التشابه، بمعنى أن الاختلاف يتقرر أولا بإقرار حالة تشابه مشتركة يتبعها تميّز واختلاف. التصور المشكل للاختلاف يتأسس على إنكار حالة التشابه الأصلية وادعاء حالة مفارقة وتفرّد غير واقعية. لذا يقلق المثقف المصارع من فهمه من خلال سياقات وأنماط تفكير معيّنة. لن يريحه إلا نظرية مصممة خاصة لتفسيره هو لا غيره.
ممكن أن نقول في ختام وصف هذه الجزئية أن الحكم لا العقلنة يوفر للمثقف المصارع المردود النفسي الذي يتوافق مع حالة الصراع التي يتواجد فيها. المثقف المصارع في حالة قلق على وجوده لأسباب متعددة ذاتية وموضوعية. ما بيدنا هنا هو الموضوعية منها، وهي وجوده في مجتمع يرتكز صراعه على الهويات. المثقف المصارع يندمج في صراع الهويات ولا يخرج عنه. المثقف المصارع يتصدى لسؤال: من أنت؟ ولذا فهو يتحرك كثيرا تحت شعار: أنا الذي. أنا الذي هنا هي علامة حادة على الخوف على الهوية الذاتية داخل حمّى الصراعات. لن تتفاجأ هنا حين يلجأ المثقف المصارع لترديد أنا الذي (عدد السنين التي قضاها في البحث/عدد مؤلفاته) في حمّى الجدل مع الآخرين. حبيبنا المثقف المصارع هنا يعود لسلوك سلفه الشاعر العربي المصارع المتواجد أيضا في بيئة صراع الهويات ليعيد الملحمة القديمة الجديدة: أنا الذي وأنا الذي، والتي غالبا ما تنطوي على أنت لست الذي.. لتستمر عملية وجودي مرتبطة بأن يكفّ مخالفيّ عن الوجود.