تعاني السنة النبوية في العصر الحديث من بعض المثقفين والمتنورين الذين عظموا العقل وجعلوه سببا في هدم النقل، فظهرت في كتاباتهم الذوقيات الخاصة والأوهام التي ألبسوها لبوس العقلانية والتحررية
صاغ علماء أهل الإسلام من أهل الحديث منهجية أبهرت العلماء من المسلمين وغير المسلمين في تنقية الأخبار من حيث القبول والرد حفاظاً على سنة النبي صلى الله عليه وسلم والتي تعد من الوحي المقدس (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)، وجعلوا ذلك علماً محكماً وتراكمياً منذ عصر الصحابة إلى عصر التدوين ثم التفريع والشرح والبسط للمسائل في مدونات أهل الإسلام.
إن من يقرأ في كتب السنة وكيفية جمعها، وتدوين الرجال والعلل وتقعيد مصطلح الحديث وترتيب القواعد التي من خلالها يميز بها بين الصحيح والضعيف والمقبول والمردود من الأخبار، ليجد أن ذلك يشكل قيمة حضارية يفخر بها المسلمون في كل عصورهم إذ لم يثبت عن أمة من الأمم أن حفظت تراثها وتنقيته من الدخيل مثل ما حصل في أمة الإسلام، ولم تستطع مجمل العلوم الإنسانية والاجتماعية القديمة والحديثة أن تصنع نفس المنهج العلمي في الإثبات والرفض من الأخبار، ولا يستطيع أحد أن يوقن بعظمة ذلك إلا المتخصص الذي يعرف كيف يميز العلماء علل الحديث ومعرفة صحيحها وسقيمها والحكم على الرجال بالثقة في نقل الأخبار فما دونها من المراتب المعروفة في مظانها العلمية.
ولم يكن عمل علماء الإسلام في التاريخ والواقع هو في النظر إلى السند دون المتن، أو إهمال دور العقل في الحكم على الحديث من حيث القبول والرد، فكما أنهم نقدوا أسانيد الأحاديث ورجالها، فهم كذلك أسسوا لعلم عظيم يعرف بـ(نقد متون السنة)، لينظروا في العلل والشذوذ في المتون من خلال منهجية علمية غير أهوائية يحكمون من خلالها على الحديث بالنكارة أو الشذوذ من خلال متنه لا سنده، وهذه قيمة الفقه في تلقي الأخبار وخاصة حين يكون هناك خلل وتناقض أو نكارة في المتن المنسوب إلى المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولكنها منهجية قائمة على أسس علمية راسخة أصلها علماء الحديث وفقهاء الإسلام.
إن هذا المنهج العلمي الراسخ ووجه منذ بدايته بدعاوى عقلانية، ترى أن هناك قدرة على فرز الحديث من خلال منهجية خارجة عن إطار قواعده الذاتية، وذلك بالركون إلى النزعة المتلبسة بـ(العقل) الذي بمجرد ألا يقبل عقله الحديث فهو يسارع إلى إبطاله وتكذيبه، وقد كانت بداية ذلك في مناقشة المعتزلة لرتبة النقل والعقل وأيهما المقدم، ولأن المدرسة الاعتزالية كانت مدرسة عقلية فقد جعلوا العقل في رتبة أعلى من أخبار الشريعة (السنة)، ثم توهموا التعارض بينهما فقدموا العقل على النقل، وشقوا بذلك مدرسة تاريخية لا تزال معالمها ظاهرة في الواقع ولها روادها ومعجبوها الذين يتجرأون على إبطال نصوص الشريعة بتوهم عقلي، والأخطر من ذلك أنهم لا يفرقون بين العقل النسبي أو المكتسب أو المكوّن حسب تعريف لالاند في موسوعته الفلسفية، وبين العقل الفطري الغريزي أو المكون – بالكسر، فيخلطون بين مستوى العقل فيتوهمون أن أهواءهم أو آراءهم النسبية هي التي تعبر عن العقل البشري، فما رفضوه فقد رفضه العقل وما قبلوه فقد قبله العقل، فأحدثوا في التراث الإسلامي خللاً كبيراً لا تزال تعاني منه الأمة الإسلامية.
ولا شك أن للعقل قيمته الكبرى في الإسلام، إذ هو مناط التكليف، وبه يتم استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، وبه يفهم مراد الشارع، وعليه قامت سوق التأصيل والتقعيد والترتيب العلمي، وأثنى الله تعالى عن من يتعقل ويتفكر ويتدبر، ولكنه في نهاية المطاف آلة ووسيلة للفهم له حدوده التي لا يستطيع تجاوزها، فإن دخل في غير حماه أوقع بالضلالة والانحراف، وهو مثل غيره من القدرات البشرية التي تقف عند حد الاستطاعة البشرية دون أن تستطيع أن تنفذ إلى عوالم أخرى كالسمع والبصر إلا من خلال خبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ولذلك جاءت تفاصيل قضايا الغيب من خلال النص دون أن يستطيع العقل وحده إدراك كنهها وتفاصيلها لخروجها عن إطاره الطبيعي.
إن علاقة وارتباط العقل بالنقل من القضايا التي ظهرت في الأمة بوقت مبكر، وترتيب هذه العلاقة هو مشروع كبير قام به شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه درء تعارض العقل والنقل أو بمسمى (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول) ليثبت في الأصل أنه لا يمكن أن يتعارض العقل الصريح مع النقل الصحيح، لأن القضايا العقلية الصحيحة خلق الله، وما جاء في النقل الصحيح شريعة الله فلا يمكن أن تناقض وتتعارض، وإنما ينشأ التعارض من توهمنا بصحة النقل أو صحة العقل، فإن نشأ تعارض ظاهري وجب فحص العقل وقطعيته والنقل وقطعيته حتى يتم الجمع والتأليف دون إبطال أحدهما بلا حجة ولا كتاب مبين، وهذا المنهج هو الذي يعيد للعلم اعتباره ويؤخر الأهواء والرغبات والتحكمات التي تظهر فيها النزعات الخاصة، وهذه هي مهمة العلماء الراسخين الذين عرفوا سبل العقل والنقل.
المشكلة التي تعاني منها السنة النبوية في العصر الحديث أن الذين ركبوا دراستها بعض المثقفين والمتنورين الذين عظموا العقل ولكنهم جعلوه سبباً في هدم النقل من خلال تحكمات ناتجة عن جهل في المعقول والمنقول، فظهرت في كتاباتهم الذوقيات الخاصة والأوهام التي ألبسوها لبوس العقلانية والتحررية، وهي عند التحقيق لا تعدو سوى توهمات لا تصمد للنقاش ولا للاعتراض، وخاصة أولئك الذين ينطلقون من نزعة توفيقية تعسفية لتشذيب وتهذيب الإسلام ليتلاءم مع مقتضيات العصر حتى لو أدى ذلك لخرق قواعد العلم والعبث بأحكام الشريعة الثابتة وإنكار كل حديث يتعارض مع أهوائيات الحداثة المعاصرة وقيمها الغازية.
إن مكمن الخطورة هو في أولئك الذين لا يصرحون بمصادمة الشريعة وقيمها، ولكنهم ينتجون من المناهج ما يلتفون به عليها من داخلها وإبطال قيمها بمنهجية مدعاة تتلفع بالعلمية والقراءة الحديثة وبأدوات جديدة، وفي نهاية المطاف تصهر الشريعة بالعصر فيكون العصر متحكماً بقيمها، ومحصلة ذلك حاكمية العصر على الشريعة وإبطال مفاهيمها وعقائدها وقيمها الكبرى.