لم يتطرق نظام القضاء للآلية التي ينبغي من خلالها عرض القضايا على الهيئة العامة بالمحكمة العليا، وترك الموضوع بلا تحديد للآلية بوضوح؛ يتيح المجال للاجتهادات المختلفة

من أكثر النقاط التي يشتكي منها المختصون فيما يتعلق بالقضاء؛ اختلاف الأحكام في نفس القضية بين قاض وآخر، وهذا الإشكال بلا شك أنه يفضي إلى ضياع للكثير من الحقوق والأموال، ويمنع الكثير من الاستثمار الذي يبحث عن البيئة المتطورة والتي تتضح فيها الحقوق والقوانين، وربما هذا الأمر من أكثر الأمور الطاردة للاستثمار، سواء من المواطنين أو الأجانب.
الحقيقة أنه من الملاحظ بداية تضاؤل تلك الظاهرة لتفاوت الأحكام، إلا أنه وللأسف أن هذا التضاؤل لم يكن بسبب معالجة نظامية، وإنما يرجع إلى ارتفاع وعي القضاة أنفسهم وإدراكهم للمشكلة، وانتشار ثقافة المبادئ القضائية التي لم يدون منها إلا القليل (خاصة في القضاء العام). ولكن مهما كان هذا التطور؛ فإن قضية واحدة تحدث بشكل متناقض كفيلة بزعزعة الثقة في القضاء، ولو نظرنا إلى الأمر من نواحي العدالة والمساواة فهي أيضا لا تتفق معها.
لن أتطرق في هذا المقال إلى النواحي الفقهية، وإنما سأتحدث عن آلية عمل السوابق في القوانين الدولية كأنموذج، ثم أعود للنظام السعودي وما عليه من ملاحظات، وأرجو أن يكون فيها النفع والفائدة.
أولا: يجب ذكر أن القوانين العالمية غالبا ما تندرج تحت منهجين؛ إما المنهج الإنجليزي Common law الذي يشتهر بالأخذ السوابق القضائية Precedent (إذا صدر حكم قضائي وأيدته المحكمة الأعلى فإنه يصبح كالقانون) وإن كان أصبح الآن يجمع بين فكرة السوابق والتقنين، أو المنهج اللاتيني Latin law الذي يشتهر بوضع قوانين في غالب المجالات. المهم؛ هو أن من وسائل استقرار القضاء والحد من تفاوت الأحكام هو الإلزام بالسوابق القضائية، وهو ما سأتحدث عنه هنا.
ثانيا: ماذا يعني الإلزام بالسوابق القضائية؟ هو يعني شيئين: أحدهما؛ التزام المحكمة نفسها بالسابقة التي صدرت منها، وأن لا تخالف المبدأ الذي حكمت به؛ والثاني التزام المحاكم الأخرى المماثلة أو الأقل درجة بتلك السابقة ولا يجوز مخالفة ذلك الحكم إلا من خلال عملية هرمية يحددها القانون.
وفي القانون الإنجليزي؛ لا يجوز لأي محكمة أن تنقض أحكامها التي صدرت منها إلا محكمة القضاء الأعلى فقط The Supreme Court of UK، وهي أعلى جهة قضائية، ولا يكون لديها هذا الحق إلا بناء على بعض المعطيات. فكل محكمة في درجة قضائية (المحاكم الابتدائية أو الاستئنافية أو العليا) إذا رأت ضرورة نقض سابقة أو تعديلها، فإنها يمكنها فقط أن تشرح ذلك للمحكمة الأعلى منها لتغيير تلك السابقة المبدأ القضائي، وهناك طريقة أخرى لتغيير السابقة من خلال البرلمان التشريعي الذي بإمكانه سن قانون يخالف أو يوافق السابقة.
أعود للنظام السعودي؛ حيث نص نظام القضاء في مادته الثالثة عشرة، على تكوين هيئة عامة في المحكمة العليا، ثم أوكل إليها تقرير مبادئ عامة في المسائل المتعلقة بالقضاء. ثم شرحت في المادة التالية آلية العدول عن المبادئ التي سبق وأن قررت.
بالرغم من أن نظام القضاء كتب بشكل احترافي رائع؛ إلا أن هذين النصين عليهما بعض الملاحظات التي نتمنى أن يتم تعديلها للمصلحة العامة، منها:
1- أنه لم يتطرق للآلية التي ينبغي من خلالها عرض القضايا على الهيئة العامة، حيث إن ترك الموضوع بلا تحديد للآلية بوضوح؛ يترك المجال للاجتهادات المختلفة، وربما يؤدي أيضا إلى التوقف والتعطل، وهو ما حدث فعلا، فلم أسمع عن صدور مبدأ واحد، بالرغم من أن نظام القضاء صدر منذ عام 1428، وإذا كان قد صدر شيء فإن الجهات القضائية تتحمل مسؤولية عدم نشره.
2- كان من المفترض أن يجعل النظام تقرير المبادئ يبدأ من خلال قرارات الاستئناف جميعها، فلا يحق لأي محكمة استئناف أو محكمة ابتدائية أن تخالف ذلك الحكم (وهذا بالمناسبة ما نص عليه نظام القضاء القديم الذي صدر عام 1395)، والأمر مثله فيما يتعلق بما تحكم فيه المحكمة العليا، وهذا هو ما عليه العمل في أغلب القوانين القضائية، وبهذه الطريقة تتم معالجة الفراغات التشريعية بسرعة وآلية طبيعية دون الحاجة إلى هيئة ووضع جدول أعمال لها، فضلا عن أن عدد قضاة المحكمة العليا لا يمكن أن يكفي لتغطية جميع القضايا بوضع مبادئ تتجدد كل يوم.
3- لا أعتقد أن إسناد وضع جميع المبادئ للهيئة العامة كان مناسبا، بل ربما من الأنسب لو تم تحديد مهمات الهيئة في القضايا التي تتعلق بالشأن العام أو القضايا الملحة، أو ما يتعلق بشؤون القضاة وتطوير جهاز القضاء ولوائحه وتنظيماته ونحو ذلك.
4- لم يبين النظام مدى إلزامية المبادئ التي تضعها الهيئة العامة من عدمه، وإذا تم تطبيق قواعد تفسير النصوص القانونية، فإن الأصل عدم الإلزام حتى ينتقل عن هذا الأصل بنص صريح بالإلزام، وما دام أن النص لم يشر لذلك فالأصل عدم إلزامية تلك المبادئ، وبهذا لا يكون لها فائدة كبيرة إلا الاسترشاد. ولو رجعنا لنص نظام القضاء القديم لوجدنا أنه أوضح، فقد وضع آلية لمخالفة السوابق القضائية أوضح ووضع شروطا لها مما قد يفيد إلزاميتها، وكنت أتمنى لو تم على الأقل إعادة نفس النص النظامي السابق.
ومهما كان الأمر؛ فإن هناك عتبا كبيرا يقع على كاهل وزارة العدل ومركز تطوير القضاء، حيث يتساءل الكثير عن نشر الأحكام القضائية، ولو بحثنا في بعض الدول الفقيرة لوجدنا مجلدات ضخمة ومبوبة ومفهرسة بطريقة احترافية لجميع الأحكام، وللأسف أننا إلى الآن لم نصدر إلا القليل، بالإضافة إلى بعض الملاحظات في طريقة ترتيب وتبويب تلك المبادئ المنشورة.
أخيرا؛ تطوير القضاء من الشأن العام الذي يهم كل مواطن غيور على وطنه، وأعلم أن هناك جهودا جبارة تبذل من قضاة ومسؤولين، وأتمنى أن يتكللها النجاح، وهذه مجموعة من الأفكار، ربما يكون فيها النفع والفائدة.