صرنا نتحدث في كل شيء، في كل وقت، في كل مكان، نفتي في الدين ولسنا بعلماء، وفي الصحة ولسنا أطباء. والمصيبة الأطم أننا نجادل المتخصص ونحاجج الخبير لا لشيء إلا لأن كلامه لا يوافق هوانا

غريب ما يحدث!
لقد صار عند الناس – بعض الناس أو قل معظم الناس- شهوة الإفتاء والتسابق على تصدر المجالس والمنابر ووسائل التواصل (تويتر وواتس أب وغيرهما) وتهافتهم لبث الأخبار الناقص منها والكامل.. والصحيح والكاذب. وصار تويتر هو منبر الخطيب وهو دار الإفتاء وهو إذاعة الناس ووكالة أخبارهم وهو المتحدث الرسمي.
لقد صار تويتر هو المنبع والمصب لأخبار المجالس المحلية، وتبعاً لهذا التأثير فقد استغل نافخو الكير ومشعلو الفتن هذا الموقع الهام وصاروا يمطرونه بالأخبار الملفقة والمكذوبة والمصنوعة ثم لا تلبث هذه التغريدة أو تلك أن تنتشر بسرعة البرق عبر تداولها وتنقلها من مُعّرف إلى آخر وانتقالها من يد الأغرار الصغار إلى أحضان بعض الأغرار الكبار: تطير بسرعة فائقة من أهل المخفة إلى أهل الثقل، ومن المراهق إلى الراشد ومن المستجد الجاهل إلى الكبير الخبير.. هكذا تحلق التغريدة بين المعرفات والمواقع حتى ولو أنها مفتعلة أو أن لها أصلا من الصحة، لكن لم تكتمل عناصر التثبت فيها، خاصة فيما يكون له علاقة بالدم أو بالعرض تموج في آفاق الوسائط ويرتبك المجتمع ثم يتداعى أهل الفتنة يحرضون النفوس القلقة للثأر، ويتمادى إيغار الصدور وتكريه الناس في ولاتهم وزرع الشك في سطوة العدالة عندهم.
لقد تحدثت في هذا الأمر مع كثير ممن أعرف، خاصة بعض من يقومون بتزويدي ببعض الأخبار التي ترد تباعاً من أكثر من مصدر ثم بعد أن اطلع على التغريدة أكتشف بشيء بسيط من التحقق أنها تفتقد لكثير من عناصر التثبت وكثير من أسباب الصدقية، وأجدها حافلة بكثير من أسباب التهتك والادعاء ثم أتولى ترحيلها إلى سلة المهملات، وربما أتولى غير راغب دور الواعظ الذي ينصح من معه في مجموعة القروب بعدم تداول وإرسال كل ما يرد.
غريب ما يحدث!
لقد صرنا نتحدث في كل شيء، في كل وقت، في كل مكان، نفتي في الدين ولسنا بعلماء، وفي الصحة ولسنا أطباء، وفي الدواء ولسنا صيادلة في الاقتصاد والسياسة والرياضة وفي التكنولوجيا والفيزياء والرياضيات والنسبية في كل شيء، في كل وقت، في كل مكان. والمصيبة الأطم والأعظم أننا نجادل المتخصص ونحاجج الخبير ونشكك في الموثوق ونسفه العالم المتبحر في حقله لا لشيء إلا لأن كلامه لا يوافق هوانا، أو لأن ما لديه من علم وحجة يتناقض مع ما هو متداول بين الناس وكأن كلام الدهماء والغوغاء حجة دامغة.
غريب ما يحدث!
نحن في زمن الفتن وأكمل الناس في زمن الفتنة هو الذي يجعل الله له بصيرة يمحص من خلالها ما يسمعه ولا ينقل كل ما يرده ويهجر اللغط والقيل والقال إلى ما هو أسمى وأرفع، فقد قيل إن أكمل الناس حالاً عند نزول الفتن هو من يلهج لسانه بذكر الله تأليها وتسبيحاً وتحميداً واستغفاراً. وأعقل الناس في حال الهرج والمرج هو الذي لا يكترث من ازدراء البعض له لانصرافه عن كلامهم ولغطهم وعدم خوضه فيما يخوضون وعدم تأييده لكلامهم غير المثبت النابع من غير مصدر وأكثر من رواية، ومعلوم أن معظم رواة المجالس والوسائط يملحون ما ينقلون ويبهرون ويزيدون أو ينقصون.
غريب ما يحدث!
هذا زمن الرويبضة وهو التافه يتكلم في أمر العامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيأتي على الناس سنوات خداعات يُصَدّق فيها الكاذب ويُكَذّب فيها الصادق ويُؤتمن فيها الخائن ويُخَوّن فيها الأمين ويَنطِق فيها الرويبضة.
(سبحانك اللهم وبحمدك. أشهد أن لا إله إلا أنت. أستغفرك وأتوب إليك).