عرفت في الشيخ صالح الحصين - رحمه الله - الأصالة مع المعاصرة، والصمت الحكيم، وتقدير الناس، والزهد الحقيقي، وعرفت فيه الورع والرأي الحر

كتب وسيكتب الكثيرون في هذه البلاد المباركة وخارجها عن الفقيد الكبير؛ فضيلة الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين.. عالم، كريم، بسيط، متوازن، وسطي، رصين، متطور، متواضع، إنساني.. إلى آخر السلسلة المستحقة.
إنها جملة من صفات جميلة، وقيم نبيلة لا يمكن لأحد أن يشكك في أن الشيخ صالح ـ رحمه الله ـ قد أكرمه الله تعالى بالتحلي بها.. الشيخ صالح الحصين عرفت فيه الأصالة مع المعاصرة، والصمت الحكيم، وتقدير الناس، والزهد الحقيقي. وعرفت فيه الورع والرأي الحر ـ عندما تعين رئيسًا لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي عام 1422هـ وقف بكل قوة ضد إيداع رواتب موظفي الرئاسة في البنوك، رفعًا للحرج ـ وعرفت فيه البعد عن التكلف في المظهر، والعزوف عن الأضواء، والضجيج، والصخب، وعرفت فيه السماحة، والقدرة الفائقة على إدارة الحوارات، واستيعاب جميع الأطياف، والوقوف الباهر عند معاني الكلمات وما وراء النصوص، وحضور البديهة، والذهنية العالية، والاسترسال المحكم.
أكرمني الله تعالى بمعرفة الشيخ صالح لأول مرة في جلسات اللقاء الوطني للحوار الفكري عند مشاركتي الأولى فيها قبل تسع سنوات، واستوقفني أن الشيخ هو أول من يفتح باب المصلى في مقر إقامة اللقاء قبل صلاة الفجر، ويأخذ جانبًا يكثر فيه من التلاوة، وإطالة القيام، والإلحاح في الدعاء، وكنت أغتنم وقت ما بعد صلاة الفجر للحديث معه حول جوانب علمية وتربوية متعددة، ولا يفتأ أن يردد ونحن نتحدث: اللهم صل على ـ سيدنا ـ محمد وآل محمد.. محبتكم يا آل البيت النبوي الشريف واجبٌ وشرف.
بعد أشهر من جلسات الحوار زرت مع مجموعة من طلبة العلم الشيخ الحصين في مكتبه بالرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي تقديرًا لصفائه، وشكرًا لصفاته، وجرى أثناء ذلك اللقاء الجميل الكثير من الكلام الطيب والمفيد، ومنه الحديث حول دور حلقات ودروس العلم الشريف في المسجد الحرام، وفضل علماء مكة المكرمة. وصرح لي الشيخ ـ وبالنص ـ: إن أمر دروس الحرمين يتبع المقام السامي مباشرة، وولي الأمر يولي هذا الأمر اهتمامًا خاصًا.
مما شدني في حياة الشيخ قصة قصها معالي الشيخ أحمد زكي يماني في مجلسه العامر يوماً ما، وأذكرها هنا باختصار.. يقول الشيخ زكي يماني: تزاملت في مجلس الوزراء مع الشيخ صالح الحصين من عام 1391هـ إلى عام 1394هـ، وحدث أن أمر جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ بقطعة أرض لكل وزير، وقام معالي وزير المالية الشيخ محمد أبا الخيل آنذاك ببيعها وتسليم ثمنها لكل واحد في المجلس، وأصر الشيخ صالح على عدم تسلم الشيك الخاص بالثمن، وخشية من الإحراج، وتفسير الرفض بما لا يحمد قبل بالشيك، ثم قام مباشرة بالكتابة على ظهره لتحويله إلى إحدى الجمعيات الخيرية بالمدينة المنورة.
وفاءً للعلم، وأنه رحم بين أهله صلينا ومجموعة من عارفي فضل الشيخ صالح الحصين عليه صلاة الميت الغائب. ولئن فاتنا تقديم العزاء عليه، فلم يفتنا أن نستقبل التعازي فيه.. أسأل الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يرحمه رحمة واسعة، وأن يبارك في ابنه سعادة الدكتور عبدالله الحصين؛ عضو هيئة التدريس بكلية العمارة والتخطيط، بجامعة الملك سعود، صاحب الرؤى الهندسية العميقة، وبالأخص تلك الرؤى التي تتعلق بتوسعة ساحة المطاف في المسجد الحرام، وتوسعة المسجد النبوي الشريف.