كميل السلطان
عاد من سفره منهيا مشوار ابتعاثه هناك، استقبلته عائلته في المطار، فحفوا به فرحين تغمرهم سعادة كبيرة، هو أيضا كان يبتسم لهم، اصطحبوه للسيارة فمضوا به إلى البيت.
كان ينظر من نافذة السيارة لكل ما هو حوله، بدأ يتأمل السماء ثم يطرق برأسه نحو الأرض، أخذ يتأفف كثيرا، سأله والده: ما بك يا بني؟ أهنالك خطب ما؟ فأجابه: لا يا أبي ولكن سئمت النظر إلى هذه الصحراء طوال الطريق، فالطريق كله متشابه، ولا يكاد يتغير فيه شيء، تبسم والده قليلا ثم أشار بيده وصرخ بصوته: انظر انظر هناك، هناك إبل على حافة الطريق أليست جميلة؟
بدأت حياة الشاب تعود يوما بعد يوما إلى ما كانت عليه قبل أن يسافر للدراسة، والضيق يخالجه ويزداد مع كل يوم ينقضي، فقرر يوما أن يزور أصدقاءه، فتوجه إليهم يسامرهم ويحادثهم، وهو لا يكف عن الحديث عما رأى من تلك البلاد وتطورها وجمالها، وما بين كلمة وأخرى تراه يدرج كلمة إنجليزية في حديثه، وهو ما يزال يتحدث عن تلك الدولة وينتقد واقعه، أخذ أصدقاؤه بالتسلل واحدا تلو الآخر، فغادروا المجلس بعد أن ملوا ترانيم الكلمات الأجنبية، والزهو بواقع دولة أجنبية وكأنه من عمل على تطويرها وصناعة حضارتها.
بدا واضحا لأبيه أن هناك تغيرا كبيرا في طباع ابنه، خصوصا حين بدأ ينتقد عاداتهم وتقاليدهم، فلا يعجبه أن تنفصل النساء عن الرجال في البيوت والأماكن العامة، ولا يعجبه أن تستر المرأة وجهها، وتضجر كثيرا من اهتمام الناس بدينهم وتعلمهم إياه والحديث عنه دوما، فظل حبيس داره منعزلا عن مجتمعه.
طرق والده الباب عليه، جلس بالقرب منه، ونظر إليه بتأمل، ثم قال له: بني لقد أوفدناك للخارج لتدرس وتتقدم بالعلم لا لتتأخر به وتنعزل، انظر هناك الناس تعيش في سعادة غامرة لأنها تنظر إلى قلوب بعضها البعض، لا إلى وجوههم وملابسهم ومبانيهم، فإن كنت لا تعرف كيف تنظر إلى هذه القلوب الصادقة والمحبة لبعضها ووطنها فاخرج إليهم وتعلم منهم.
بني أنت كنت هناك لتعود إلى وطنك وتسهم في تطوره، فما الذي أتيتنا به من هناك؟ جئت ناقما على مجتمعك، لا بأس اذهب إليهم فلسنا بحاجة لزيف المدنية وضريبتها الفاسدة.
ألقى له بتذكرة الطيران قائلا له: خذ هذا صك حريتك الزائفة، اذهب فنحن هنا أسعد من أولئك الناس الذين عشت معهم.
نظر الشاب إلى أبيه بدهشة وعيناه تحبسان دموعهما خجلا وأسفا، ثم قال: ما صفعتني قط يا أبي، وحين صفعتني كانت صفعتك قاسية.