من خلال بعض الوقفات، شاهدت مجموعات وأفرادا أرصدتهم الحسابية متقاربة، وعرفت مدناً ودولاً ميزانياتها المالية متشابهة ولكن المحصلة النهائية التي يفترض أن تسجل في صالح الذوق الجمالي العام متباينة

ثبت عن سيد أهل الجمال والجلال ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله: نعم المال الصالح للمرء الصالح؛ ولا أشك أبداً في أن جملة (المرء الصالح) في هذا الحديث النبوي الشريف تتضمن كل من تفضل الله ـ سبحانه وتعالى ـ عليه بشرف توظيف المال من أجل صناعة الجمال.. صحيح أن المال هو عصب الحياة، أو من أساسياتها المهمة؛ ولكن الصحيح أيضاً هو أنه لن يستطيع كائن من كان من البشر أن يعرف القيمة الحقيقية للمال كما ينبغي إلا لو عرف أن الجمال ليس أمراً من الأمور الكمالية، بل هو من الأمور الضرورية..
من خلال بعض الوقفات والجولات هنا وهناك شاهدت وأشاهد مجموعات وأفراداً أرصدتهم الحسابية متقاربة، وعرفت وأعرف مدناً ودولاً ميزانياتها المالية متشابهة ولكن المحصلة النهائية التي يفترض أن تسجل في صالح الذوق الجمالي العام متباينة جداً.. الأسباب الداعية لهذا الاختلاف الواضح كثيرة جداً، ومن أهمها عدم إتقان العمل، أو لنقل صراحة عدم الرغبة في الإتقان. ومن الأسباب كذلك عدم وجود الإدارة الممتازة والمتميزة، ومن الأسباب أيضاً قلة الشعور بالانتماء وبالأصح فقدانه، ومن الأسباب كذلك أن الذي يعمل والذي لا يعمل يعاملان بذات التقدير، ومن الأسباب أيضاً عدم وضوح النظام الذي يحتكم إليه الجميع، وربما عدم وجوده أصلا، ومن الأسباب كذلك التخطيط العشوائي والسريع، وغير ذلك مما لو ذكرته لما تحملته مساحة مقالي هذا.
كلمة (المال) ذكرت في القرآن الكريم أربع مرات ـ سورة البقرة الآية رقم 177، والآية رقم 247، وسورة الكهف الآية رقم 46، وسورة الفجر الآية رقم 20 ـ وذكرت كلمة (الأموال) في القرآن ثلاث مرات ـ سورة البقرة الآية رقم 155، وسورة الإسراء الآية رقم 64، وسورة الحديد الآية رقم 20 ـ وكلها تدل على مكانة النظرة إلى مكانة الثروة، والترغيب في اكتساب المال، والاتجاه بالإنسان إلى ميدان العمل الشريف المثمر؛ لا الاعتزال والإعراض عن الكسب والتكسب المشروع.
مرة أخرى أؤكد على أن المال موجود عند الجميع، ولكن المطلوب هنا هو المزيد من التخطيط، والحرص على التطوير، والرغبة الحقيقية في التحسين، وعدم إهمال أي رأي من أي أحد، وابتكار الحلول والبدائل، وتشجيع المتميزين في الأداء، والاستغلال الأمثل لكل شيء، وتعميق روح الإبداع، والقبول بالجديد، وتغيير أنماط التفكير، ومحاربة الجشع والطمع، وترسيخ قيم الصدق والأمانة والإخلاص والعدل والجمال والذوق والإتقان في النفوس؛ وهذه القيمة والوسيلة الأخيرة ـ أقصد الإتقان ـ تعد من أهم الوسائل الحضارية لتقدم المجتمعات، وتعد من أبرز ما يفتقده أكثر الناس في حياتهم؛ مع أنه أمر تعبدي، وصف به المولى ـ سبحانه وتعالى ـ نفسه {صنع الله الذي أتقن كل شيء..}، ونبهنا ـ تعالى في علاه ـ إلى أهميته {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون..}، وهو طريق لكل سبيل من شأنه منع التخلف عن المجتمعات، وكبح عدم الإحساس بالمسؤولية، وطرد العملة الرديئة ـ كما يقولون ـ ؛ لأنه ليس هدفاً سلوكياً قاصراً على البعض دون الآخر، بل هو سمة حضارية تقدمية تنمحي بسببه أسباب الفوضى واللامبالاة والتخلف وموت الضمير وضحالة المهارة وفقدان التنظيم وخلط الأدوار بوضع الرجل المناسب أو غير المناسب في المكان غير المناسب، مما يعني ضياع الواجبات والمسؤوليات.