تؤدي هجرة العقول إلى البلدان الغربية إلى آثار سلبية على واقع التنمية، ولا تقتصر هذه الآثار على واقع ومستقبل التنمية الاقتصادية والاجتماعية فحسب، ولكنها تمتد أيضاً إلى التعليم في الوطن وإمكانات توظيف خريجيه في البناء والتطوير
عطيف، باكستاني الأصل والمنشأ، بريطاني حديثا؛ فهو لم يولد في بريطانيا، بل أتى إليها قبل تسع سنوات تقريباً رغبةً منه في حياة أفضل، تعرفت على عطيف قبل أن يحصل على الجنسية البريطانية حيث كان حارس أمن في السينما التي اعتدت ارتيادها، كان لديه حماس لتعلم اللغة العربية لغة القرآن من خلال السؤال عن كيف أقول كذا وكذا بالعربي، وفي كل مرة يراك يمارس معك ما تعلمه إلى أن أصبح الآن باستطاعته أن يجري حواراً كاملاً لمدة 10 دقائق بلغة عربية سليمة، بل أصبح عطيف أيضاً مدير أمن صالات العرض.
وتذكرت أيضاً محمد شيراز، ولا أعرف بأي خانة يمكن تصنيفه، أتى به جدي صبياً صغيراً من باكستان قبل ولادتي بسنين، وعندما ولدت كان يفعل حركات بهلوانية إذا رفضت تناول الطعام، وتدرج إلى أن أصبح فرداً من أفراد العائلة، ولا يوجد أحد يعرفنا إلا ويعرف شيراز كما جرت العادة على مناداته، شيراز الآن يتحدث العربية باللهجة السعودية بطلاقة ومقيم في الرياض منذ أكثر من39 سنة، ومازال باكستاني الجنسية سعودي الروح والهوى ويعمل في منزل عائلتي.
تذكرت أيضاً غنام الدوسري الذي تم رفضه من قبل جامعة الملك سعود واحتضنته جامعة كالفورنيا سان فرانسيسكو ليصبح أستاذا مساعدا في جراحة القلب، وهو من أدق وأندر التخصصات بالعالم، ولم يتوقف هنا بل قام بعمليات زرع للرئتين، أما مواطنه صالح القحطاني، أستاذ مساعد أيضاً في أمراض الكبد في جونس هوبكن، ومواطنهم الثالث فيصل الجوفي الذي أعطى أملا جديدا لمرضى القلب في كندا.
أصبت بالخوف عندما بدأت بتجميع الأشخاص، شعرت للحظة بانضمامنا إلى ركب الدول التي تعاني من هجرة العقول إلى الدول المتطورة الصناعية.
إن صحّ هذا فسنحرم من إمكانية بناء جهاز علمي وصناعي وتكنولوجي كافٍ لبناء اقتصاد عصري ودولة عصرية.
تؤدي هجرة العقول إلى البلدان الغربية إلى آثار سلبية على واقع التنمية، ولا تقتصر هذه الآثار على واقع ومستقبل التنمية الاقتصادية والاجتماعية فحسب، ولكنها تمتد أيضاً إلى التعليم في الوطن وإمكانات توظيف خريجيه في البناء والتطوير.
تصف منظمة اليونسكو هجرة العقول بالنوع الشاذ من أنواع التبادل العلمي بين الدول، إذ يتسم بالتدفق في اتجاه واحد (ناحية الدول المتقدمة)، أو ما يعرف بـالنقل العكسي للتكنولوجيا، لأن هجرة العقول هي فعلا نقل مباشر لأحد أهم عناصر الإنتاج، وهو العنصر البشري، الذي أدركه الملك عبدالعزيز وأحسن استخدامه، ففي عهده كان من مستشاريه الدكتور عبدالله سعيد الدملوجي، وهو طبيب عراقي من الموصل، أصبح طبيبه وكاتب سره في الشؤون الخارجية. ويوسف بن محمد بن ياسين سوري أصدر صحيفة (أم القرى) الرسمية. ثم عين رئيساً للشعبة السياسية في الديوان الملكي. وفؤاد بن أمين بن علي حمزة، كاتب وباحث لبناني شارك في سياسة المملكة العربية السعودية. وحافظ وهبة بن رفاعي وهبة، مصري الأصل والمولد، عينه الملك عبدالعزيز وزيراً مفوضاً بلندن، ثم سفيراً للمملكة في لندن (1938)، وحضر اجتماعات تأسيس الأمم المتحدة مع الأمير فيصل عام 1946. وخالد بن أحمد، أبو الوليد القرقني ليبي أصله من قرقنة مقابل صفاقس في تونس، وكان من مستشاري الملك وكتّابه، أرسله الملك مبعوثاً إلى هتلر، زعيم ألمانيا النازية، ثم أرسله على رأس بعثة إلى اليمن عام 1932. وفي هذه الرحلة كتب تقريره عن بلاد عسير. وبشير السعداوي ليبي، من أهل طرابلس الغرب، عمل في الرياض، مستشاراً للملك عبدالعزيز. وخالد بن ياسين بن محمد الحكيم، سوري، وهو مهندس عسكري، وكان أيضاً من مستشاري الملك عبدالعزيز. ورشدي بن صالح بن ملحس الذي ولد في نابلس بفلسطين، وأوكل الملك عبدالعزيز إليه مسؤولية مدرسة الأبناء في القصر الملكي، التي تتولى تعليم أبناء الملك. والدكتور محمود حمدي حمودة، طبيب دمشقي الأصل والمولد، أول طبيب خدم الملك عبدالعزيز وتولى مديرية الصحة العامة. ورشاد بن محمود فرعون، سوري ولد في سورية، عينه الملك طبيباً خاصاً.
إن ما كان يقوم به الملك عبدالعزيز يسمى استقطابا للعقول، لإدراكه أهمية هذه التخصصات وندرتها في بلاده آنذاك، ولم يكتف بذلك ـ رحمه الله ـ بل منحهم الجنسية السعودية لأنه أدرك أهمية استقطاب الروح والقلب والعقل قبل الجسد.
وما يحدث الآن مع الأسف لم يستوعبه عقلي، فنحن نستقطب أجساد غير السعوديين لعشرات السنين، لكن لا يعطون حقهم بحمل جنسية البلد الذي خدمه جل عمره فيبقى عقله وقلبه وروحه مستبعدة، وننفر الكفاءات السعودية، وكل الخوف من أن يتم استقطابهم جسداً وعقلاً وروحاً وقلباً
فتصبح لدينا مشكلة ونكون قد أقمنا حاجزاً كبيراً في طريق التنمية، لاستنزافنا العنصر الأثمن والثروة الأغلى من بين العوامل الضرورية للنهوض بتنمية حقيقية قابلة للتطور والاستمرار.
ولنتذكر هنا تاريخنا الإسلامي الذي كانت أدمغة العلماء المفكرة مصدر قوة ونهضة للعالم الإسلامي في عصر صدر الإسلام والحقبتين الأموية والعباسية.
هذا ملف حيوي يجب علينا الالتفات والنظر إليه فثقافة تصدير الذكاء بدأت تغزونا.