ذات أمسية شعرية نظمها نادي أبها الأدبي في رجال ألمع أواخر القرن العشرين جمعتني مع الشاعرين أحمد عسيري ومحمد زايد الألمعي لفتني عدد الحضور الكبير من متذوقي الشعر وعشاقه ممن اكتظ بهم المكان المفتوح آنذاك. ولأن عدد الكراسي لم يكن كافياً، فعدد الواقفين كان أضعاف عدد الجالسين.. أما الأبرز فهو تفاعل الألمعيين اللاشعوري مع القصائد الملقاة.
حرص رئيس النادي آنذاك محمد بن عبدالله الحميد على أن يكون في طليعة الحاضرين مع إدارة النادي بالإضافة إلى جمع كبير من مثقفي المكان.. يصاحبهم حضور جماهيري مبهر لأصحاب ذائقة فريدة من نوعها في التلقي.. كل ذلك يجعل أي شاعر يجود بإلقائه ويندمج مع حروفه ويتغنّى محلقاً لتحط الكلمات حيث يلذ لها أن تكون في قلوب الألمعيين.
حين يتحدث الصديق الكاتب علي فايع عن الاضطرار لتأسيس مجلس ألمع الثقافي بجهود خاصة لعدم وجود مركز ثقافي في رجال ألمع المترعة بالمبدعين، فكل الحق معه، لأن الجمهور المتذوق الذي لمسته منذ عقد ونصف في مكان مفتوح غير معدّ للأمسيات، يستحق أن يكون لديه مركز ثقافي شامل لكل الفنون الإبداعية، فالمحافظة وما حواليها تضم عدداً كبيراً من الشعراء والكتاب والتشكيليين والمسرحيين والمصورين الضوئيين.. وما إلى ذلك من فنون بما فيها الموروث وروائع القط بنقوشه الفطرية الأنيقة.. والألوان الغنائية والرقص الشعبي المحبب من دمة أثيرة وخطوة وغيرهما.
الألمعيون المبدعون حين يجنّون.. فكل من يعرفهم يدرك أن جنونهم يرتقي إلى فضاءات الجمال ناسجاً من خيالاتهم رؤى المكان بتكويناته ومشاعر الإنسان بآفاقه الممتدة إلى اللامنتهى.
الألمعيون المبدعون حين يجنّون ينسابون في أودية تهامة فلا تميز إبراهيم طالعهم من علي مغاويهم، أو إبراهيم شحبيهم ومريّع سواديهم.. كلهم يهيمون، وما إن تنتاب أحدهم لحظة يقظة حتى يعاوده جنون الإبداع.
لو زرت بيت أي منهم لوجدته مركزاً ثقافياً مصغراً، فتحس أن صاحبه مستعد لأن يجوع مقابل أن يقتني كتاباً. ولو حاورت أياً منهم لأبحر بك في محيطات من عشقٍ ألمعي لا تهدأ أمواجها، ثم حدّثك عن ثروته التي أودعها على رفوف مكتبته. وعلى الرغم من كل هذا.. ما زالوا يأملون بأنهم ذات يوم سوف يمارسون طقوس جنونهم في مركز ثقافي يعانق أحلامهم وسط محافظتهم.