القيادات الفلسطينية تبدو مرتبكة وتائهة بين إلحاح مستمر على الإدارة الأميركية للتدخل في أصغر صغيرة من الشأن الفلسطيني؛ إلى احتجاج على مناشدة 'كيري' بإبقاء الدكتور فياض في منصبه

يقال إن المسافة قصيرة بين الرغبة والتمنع، وإن الهوى في النهاية هو الذي يوجه في الغالب قراراتنا. وأرجو ألا يذهب الظن بأحد فيتصور أن هذا حديث في العواطف، فهو لن يخرج عن باب السياسة. والموضوع يدور حول الصخب الذي أثارته استقالة رئيس حكومة السلطة الفلسطينية في رام الله سلام فياض، وقبول الرئيس محمود عباس للاستقالة. قيل إن سبب الاستقالة مرتبط باستقالة أخرى، تقدم بها وزير المالية نبيل قسيس لرئيس الحكومة الذي لم يتردد في قبولها. لكن أبومازن حاول إقناع الوزير قسيس بالعدول عن استقالته، مما أثار حفيظة رئيس الحكومة، فبادر هو الآخر بتقديم استقالته.
إلى هذا الحد، يبدو الأمر مقبولا وليس فيه ما يثير. فمثل هذه الأمور تحدث في كل الحكومات، وليس في الموضوع ما يستحق الجدل والنقاش. والأقرب أن الاستقالة ذاتها ليست السبب في الزوبعة المثارة. الأمر كما هو معلن، يعود لتمن من وزير الخارجية الأميركي جون كيري، على أبومازن بأن يحتفظ سلام فياض برئاسة الحكومة. لقد بدت الاحتجاجات على تصريحات كيري، أنموذجا عجيبا، يعكس صور المراوحة بين التراجع والاندفاع. وهو مسلك لم يعد له حضور قوي لدى صانع القرار الفلسطيني، منذ عدة عقود.
وصفت تصريحات كيري، من قبل القيادي في فتح السيد عزام الأحمد بالإهانة المخجلة. وأدلى كبير المفاوضين صائب عريقات بدلوه، فوصفها بالتدخل السافر في قضية فلسطينية بامتياز. وأصرت حماس في قطاع غزة، على ألا تكون إدانتها أقل من نظيرتها فتح، فأدان المتحدث باسمها سامي أبو زهري تصريحات كيري، وأكد على أن استقالة فياض هي شأن داخلي لا يجوز لأحد التدخل فيه. وحسم الأمر في النهاية، وتقرر أن يواصل فياض مهمته كرئيس لحكومة تصريف أعمال. ويبدو أنه لن يغادر موقعه في الأيام أو الأسابيع أو حتى الشهور القليلة القادمة، بما يعني في نتيجته خضوع السلطة الفلسطينية لالتماس وزير الخارجية الأميركي.
الغضب من التدخل الأميركي، سواء في الشؤون الداخلية الفلسطينية، أو بدول الطوق يبدو أمرا مستهجنا، بعد أن وضع قادة هذه الدول أوراقهم في السلة الأميركية، وقالوا إن 100% من أوراق الحل هي بيد إدارتها. ولم تكن تلك سياسة عابرة، بل أمر حكم صراعنا مع الصهاينة منذ حرب أكتوبر عام 1973، حتى يومنا هذا.
في أول لقاء بعد حرب أكتوبر للرئيس المصري الراحل بمستشار الرئيس نيكسون لشؤون الأمن القومي، هنري كيسنجر، أبلغ السادات المسؤول الأميركي بانتقال استراتيجي في السياسة المصرية، منطلقا من ثلاثة عناصر: حرب أكتوبر هي آخر الحروب، وأن كل أوراق الحل بيد أميركا، وأن علاقة مصر بالولايات المتحدة بعد أكتوبر سترقى إلى العلاقة الاستراتيجية.
حدث الفصل بعد ذلك اللقاء، بين القوات على الجبهتين المصرية والسورية. وتعهد كيسنجر لإسرائيل بأن يحجب عن عرفات فرصة المشاركة في مفاوضات التسوية السلمية، إلى حين رفع منظمة التحرير الفلسطينية الراية البيضاء والتخلي عن الكفاح المسلح، والاعتراف بمشروعية وجود الكيان الغاصب. وبناء على هذا التعهد، رفضت الإدارة الأميركية أي دور للفلسطينيين في مفاوضات التسوية. وتمسك الرئيس كارتر بذلك التعهد، فرفض مشاركة الفلسطينيين في مباحثات السلام التي أدت إلى معاهدة كامب ديفيد بين الحكومة المصرية والإسرائيلية في نهاية السبعينات من القرن الماضي.
أجبرت المقاومة الفلسطينية على الرحيل عن بيروت إلى مناطق بعيدة عن هدفها. واندلعت انتفاضة أطفال الحجارة، لتنقل مركز الجاذبية في الصراع الفلسطيني من المخيمات في الخارج إلى الأراضي المحتلة. ورغم بسالة الانتفاضة، وإبقائها جذوة الكفاح الفلسطيني حية وقوية، فإن الرئيس عرفات نفذ حرفيا ما تعهد به كيسنجر، وألقى خطابا من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة في جنيف تعهد فيه بالتوقف نهائيا عن الكفاح المسلح، وكرر عدة مرات في ذات الخطاب نبذه للعنف. بل وذهب إلى أبعد من ذلك، فأزيلت من الميثاق الوطني كل المواد التي تؤكد على مطلب تحرير فلسطين، من النهر إلى البحر، وتلك المواد التي تعلي من شأن الكفاح المسلح، ووافق على الاعتراف بشرعية قيام دولتين، على أرض فلسطين التاريخية.
أتاحت تلك التحولات المجال لفتح باب حوار مع السفير الأميركي في تونس، استمر شهورا قليلة، ثم أعيد غلق الأبواب الأميركية أمام منظمة التحرير، تحت ذرائع مشاركة منظمات تابعة لها في أعمال فدائية.
ومرة أخرى، تدخل الأميركيون في الشؤون الداخلية الفلسطينية برضا قادة منظمة التحرير، في مؤتمر مدريد بعد حرب الخليج الثانية. حددوا شروط التفاوض، وعدد الأعضاء المتفاوضين، والمناطق التي ينتمون إليها وأسماءهم، ونوعية ملابسهم، حيث منعوا من لبس الكوفية الفلسطينية، باعتبارها عنوانا لهويتهم.
عقدت مفاوضات سرية لاحقا بإشراف نرويجي في أوسلو، بين منظمة التحرير ومندوبين عن الكيان الغاصب، لكن حديقة البيت الأبيض هي التي رعت توقيع اتفاقية أوسلو، بحضور الرئيس بل كلينتون. وفي المباحثات الماراثونية، لتطبيق مواد الاتفاق برعاية كلينتون، أعرب عرفات عن امتعاضه من التحيز الأميركي لصالح إسرائيل، فما كان من كلينتون سوى إبلاغه أنه إذا لم يكن سعيدا برعاية أميركا للمفاوضات فعليه اللجوء للأمم المتحدة ولمجلس الأمن لانتزاع مطالبه. وكانت ردة فعل عرفات هي العدول عن الاحتجاج، والقبول بالشروط الأميركية.
وقائمة التدخلات الأميركية بالشأن الفلسطيني طويلة، وقائمة المطالبات بالتدخل الأميركي من قبل قادة منظمة التحرير، وعلى رأسهم أبومازن طويلة أيضا. واللافت في الأمر أن هذه القيادة، كانت تشكو حتى أيام قريبة من تجاهل إدارة الرئيس أوباما للقضية الفلسطينية، وتطالبه بالتدخل بشكل أكثر فاعلية فيها. وقد قام كيري مؤخرا بزيارة للأراضي المحتلة ولتل أبيب. بالتأكيد لم تكن تلك الزيارة للاستجمام، وهي أيضا لن تكون تماهيا مع تطلعات الشعب الفلسطيني، بل عمل لاحتواء أي احتمال باندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة، وهو احتمال توقعه كثير من المراقبين والمتابعين لمسيرة الكفاح الفلسطيني.
الزوبعة الفلسطينية تبدو مرتبكة وتائهة بين إلحاح مستمر على الإدارة الأميركية للتدخل في أصغر صغيرة من الشأن الفلسطيني، إلى احتجاج على مناشدة بإبقاء الدكتور فياض في منصبه. وهو قلق يعبر عن الفشل في صياغة سياسة عملية للوصول إلى الهدف. وهو انعكاس لغياب المزاوجة بين حمل راية المقاومة، والتفاوض من موقع القوة. وما لم تتحقق هذه المزاوجة فليس علينا أن نتوقع سوى مزيد من الفشل.