كان السودان الموحد القوي يمثل 'الجسر الحلم' للمنافع العربية في القارة الإفريقية وعاش هذا الحلم حياً في الأدبيات السياسية العربية طوال العقود الماضية
يمثل السودان جسرا طبيعيا بين الكتلة العربية والعمق الإفريقي،فعلى هذا الجسر اختلطت دماء و امتزجت أعراق وتشعبت أنساب وتفاعلت أفكار وتعاظمت منافع وكبرت أحلام مشتركة،فتشكلت الهوية السودانية التي يفخر فيها السوداني الشمالي بعروبته المتجذرة في إفريقيا كما يعتز الجنوبي بإفريقيته الملتصقة بالعروبة فهو الأصيل في الزنوجة الذي لا تنكره العروبة بثقافتها وقيمها وأخلاقها. هذا الجسر، بكل ما يمثله من أهمية ثقافية وسياسية واقتصادية،يتعرض ،منذ عقود، إلى مشاريع تهدد استقراره و تهدف إلى تفكيك مفاصله وتقطيع أجزائه . ومن أسف أن يكون مصدر التهديد، في بعض الأحيان، من أهل البيت أو من الذين يشكل لهم الجسر امتدادا طبيعيا وعمقا استراتيجيا.
مناسبة هذا الكلام الانتخابات الرئاسية السودانية – التي جرت بعد انقطاع لأكثر من ربع قرن. وجاءت نتائجها – رغم ما قيل عنها – ممهدة لطرح خيار الانفصال بين الشمال والجنوب في استفتاء عام مطلع العام المقبل. ويرى الواقعيون غير الحالمين العرب أن مسألة انفصال الجنوب عن الشمال،مسألة سودانية محضة تنحصر أضرارها ومنافعها على السودانيين وحدهم وأن الذين تشغلهم هذه القضية،من خارج الإطار السوداني، هم من بقايا أهل الشعارات الذين لم يدركوا، بعد،مساحة التغير في خريطة العالم ولم يتفهموا طبيعة العلاقات الدولية في زمن العولمة وأنهم مازالوا أسرى مفاهيم تجاوزها الزمن.
وكانت رؤية هذه المدرسة فاقدة الحلم هي التي قادت الموقف الغالب تجاه السودان في العقود القريبة الماضية فتأثرت سياسات تقييم مسألة جنوب السودان ،سلبا أو إيجابا، بحسب مستوى العلاقة مع النظام في الخرطوم، وهي العلاقة التي شهدت مدا وجزرا بحسب طول موجة رضا الدول الكبرى. ويبدو للمتأمل أن تلك السياسات لم تستطع أن تفصل بين الرؤية الاستراتيجية والموقف التكتيكي فاختلطت الأوراق وغامت الرؤى وانعدمت البصيرة،فكان التقييم والتحرك يخضع للمساومة السياسية الآنية فإذا اختلف الفاعلون مع الخرطوم على صفقات السوق، لأي سبب طارئ زائل، زاد الدعم السياسي والعسكري والإعلامي لحركة التمرد والانفصال في الجنوب مع استخدام النفوذ الدولي والإمكانيات الاقتصادية لإضعاف المركز وترجيح قوة التمرد..وكان من نتائج هذه السياسات، الخاطئة في نظر البعض، أن تنامي أمل الانفصال في نفوس الجنوبيين وعقائد سياسييهم بعد أن رأوا إمكانية توظيف الدعم الدولي لبناء علاقة قوية مع بعض العواصم العربية المهمة بغض النظر عن موقف الحكومة في الخرطوم..
فهل الرؤية القائلة بالتقليل من أهمية جنوب السودان وأثره على النفوذ العربي في القارة الإفريقية يعد سياسة خاطئة؟.. كان السودان الموحد القوي يمثل الجسر الحلم للمنافع العربية في القارة الإفريقية، عاش هذا الحلم حياً في الأدبيات السياسية العربية طوال العقود الماضية .. وحتى حين تراجعت الموجة العربية، بعد كارثة 1967 واتجه الوعي الجمعي إلى المخزون الروحي – الدين – يبلسم به جراحه ويحتمي به من هجير الفشل ظل مشروع الجسر قائما لأنه يربط الكتلة العربية مع القارة السمراء، الامتداد الطبيعي – جغرافياً ودينياً وثقافياً للمجال الحيوي العربي - .. وخلال عنفوان الصحوة – ثمانينيات القرن الماضي – استطاعت مشاريعها، الدعوية والاقتصادية والإنمائية والسياسية – أن تحقق بعض التقدم وأن تجد لها مواطئ أقدام في العمق الإفريقي .. وكان الحراك شديداً والسباق محموما بعد دخول رسل تصدير الثورة الخمينية وتطلع إيران إلى الخروج من محبس الجغرافيا وعدم الاكتفاء بالتأثير في المحيط الملاصق لها – الخليج وأفغانستان وباكستان وأذربيجان .. وينبغي الاعتراف بأن إيران سجلت نجاحاً ملحوظاً في القارة الإفريقية بعد أن كان جزؤها المسلم سنياً بالكامل .. والذين زاروا غرب القارة وشرقها ووسطها يدركون مساحة تأثير النشاط الإيراني في الجيل الجديد من مسلمي إفريقيا .. (متابعة ورصد التأثير الإيراني في القارة الهندية تحتاج إلى حديث آخر ومساحة أخرى ليس هذا مكانها)..
الحديث عن سياسات بعض العرب تجاه جنوب السودان – هنا على الأقل – ليس من باب استحضار المؤامرة بل الهدف هو الإشارة إلى أن ما جرى في السودان وما يجري على أرضه الآن وما سيؤول إليه مصير الجنوب هو تراكم أخطاء في الإستراتيجية التي تخلط الثابت بالمتحول والاستراتيجي بالتكتيكي .. الضغوط والمحاصرة السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تعرضت لها الخرطوم وما فرضته الأحداث من وقائع وما ارتكبته بعض القوى السياسية السودانية من أخطاء نتيجة الأنانية ووهم الأيديولوجيا والغفلة عن ضغوط الواقع.. كل ذلك أدى إلى ما نشاهده اليوم من نتائج ستقود – في غالب الأمر – إلى انفصال جزء مهم من الجسر السوداني. وقد لا يكون الجزء الأخير الذي سينزع بعض أعمدة هذا الجسر. قد يعتقد البعض أن أصحاب الشعارات هم من يعطون أهمية لبقاء السودان جسماً موحداً يحقق تطلعات وطموحات التمدد خارج الحدود.. أما الواقعيون الذين يضيقون بشعارات الامتداد الطبيعي والعمق الحضاري فإنه لا يهمهم ماذا يجري، بل يرون في تفتيت السودان فرصة تقلل من صخب الشعاراتية وتدفع إلى الاقتناع بأن الانكفاء على الذات وتوجيه الجهود إلى الداخل هي النظرة الموضوعية والتفكير السليم الذي ينسجم مع ثقافة العولمة التي لا تحتاج فيها الشعوب إلى أى جسور أو قنوات تنقل ما لديها إلى الآخرين، وبالتالي فإن الذين يصورون انفصال الجنوب عن الشمال السوداني بأنه نكسة أو هزيمة استراتيجية للمنطقة العربية، غير واقعيين ولا يفهمون لغة المصالح، ويرى هؤلاء أن المصالح العربية لن تتأثر بانفصال الجنوبيين وأن العلاقة مع جنوب السودان قد تكون أفضل – استراتيجياً – من العلاقة مع الخرطوم رغم الاشتراك الثقافي والديني... ولا أدري هل يتجاهل هؤلاء أن العلاقة بين الخرطوم والعواصم العربية – مهما ساءت – فلن تكون خطراً يتهدد المصير في حين أن الأعداء الحقيقيين لديهم فرصة لإنشاء علاقة مع جوبا تكون على حساب العرب جميعا. ستكشف الأيام كم ارتكب من أخطاء في حق وحدة السودان، وحينها لات ساعة ندم.