مسائل التعايش والتجديد والتعددية من أكثر المسائل استحقاقاً للدراسة والبحث من أجل تصحيح التصورات الخاطئة وصولاً إلى لم الشمل ونزع فتيل التوتر بين أبناء المسلمين

قبل البدء.. الشكر كل الشكر لوزارة الأوقاف والشؤون الدينية بسلطة عمان الشقيقة على الجهود الكبيرة التي يقوم بها أعضاؤها سنوياً من أجل إنجاح ندوة تطور العلوم الفقهية.. الندوة التي أشعر بالحسرة لغيابي عنها لهذا العام أيضاً؛ اختتمت أعمالها الثلاثاء الماضي وسط حضور رفيع لجمع من العلماء والمفكرين من مختلف الدول، والأجمل أنهم من كل المذاهب الفقهية الثمانية المعتمدة، وكالمعتاد.. فتحت وتفتح الندوة آفاقاً جديدة للدارسين والباحثين في مجال تطور الفقه الإسلامي، كما تعالج قضايا الساحة الإنسانية بما يكفل تبصير المجتمع العالمي حول أحكام الدين المتعلقة بحدث الندوة.
الدورة الثانية عشرة لندوة هذا العام حملت عنواناً مهماً هو (فقه رؤية العالم والعيش فيه.. المذاهب الفقهية والتجارب المعاصرة)، وأظهرت تباين الرؤى حول العالم وكيفية التعايش فيه بين الدول والمجتمعات المختلفة؛ فهناك رؤى جنحت إلى الإفراط وأخرى إلى التفريط في هذا الأمر. كما بينت الندوة أن مسائل التعايش والتجديد والتعددية - سواء كانت دينية أم اجتماعية أم سياسية - هي من أكثر المسائل استحقاقاً للدراسة والبحث من أجل تصحيح التصورات الخاطئة وصولاً إلى لم الشمل ونزع فتيل التوتر بين أبناء المسلمين أنفسهم، وبين غيرهم من بقية الأمم.. ليس هناك شك في أن مصطلح (التعايش) هو الذي يُمكنه ضبط النداءات الداعية للتقريب بين المذاهب الإسلامية المختلفة، وبين التعدديات الموجودة في العالم اليوم، بل هو البديل الصحيح لمصطلح (التقارب)، إذ إن التقارب يستلزم تقديم التنازلات، أما التعايش فهو ما يحافظ ويدعم الوحدة والتسامح ويحفظ الخصوصيات.
سلطنة عمان وإن كان (المذهب الإباضي) هو المذهب المعتمد فيها، إلا أن التحيز السلبي له غير موجود، يشهد بذلك من يسر الله له الوقوف على الحالة العلمية هناك، ومن هنا جاء محور (المذاهب الإسلامية وفقه العيش في العالم) في الندوة ليثبت لمن يريد أن يتعلم أن للفقه الإسلامي دوره الفاعل في ضبط فقه التعايش بين المسلمين بمختلف مذاهبهم وبينهم وبين غيرهم، فبتأمل بصير في مصنفات أهل العلم من المذاهب الفقهية المختلفة نجد تكاملاً واضحاً في ضبط فقه التعايش مع الآخر، سواء في ذلك المذهب الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي والإباضي والزيدي والإمامي والظاهري، والمدارس الأخرى كالأوزاعية والليثية. الندوة وضمن محاورها بحثت (موضوع حقوق المخالف دينياً) ـ الأقليات غير المسلمة في المجتمعات الإسلامية ـ، ولتثبيت أن الإنسان مدني الطباع اجتماعي الفطرة، وأنه لا بد من أن يتمازج في معاملاته وحاجات معيشته مع كافة الأطياف سواء كانت موافقة له أو مخالفة في الدين أو المعتقد بحثت موضوع (أصل العلاقة مع غير المسلمين في المنظور الإسلامي)، وموضوع (فقه العيش المشترك وعيش الخصوصية).. متابعتي للندوة واهتمامي بها يجعلني أكرر القول بأن فقه التعايش له آثاره المتعددة، حاضراً ومستقبلاً، وأن الندوة لبنة طيبة في توطيد السلام والتفاعل الإيجابي بين مختلف الشعوب والمجتمعات، والمطلوب أن يسهم أهل العلم والقلم في الخروج بالندوة من التنظير إلى التفاعل والانتقال إلى منهج للعمل، ومن المنهجية العميقة إلى البرامج المدروسة القابلة للتنفيذ، حتى نسهم في بناء أمة مسلمة بعيدة بفكرها وحضارتها عن القطيعة بين أفرادها الذين تجمعهم المصالح والمواهب والمصير المشترك.. شكراً مضاعفاً لسلطنة عمان، والله وحده من وراء القصد، وهو سبحانه الهادي إلى سواء السبيل.