متى خلصت قوى الصراع التقليدي إلى رؤية أو برنامج عمل يطور الحد الأدنى من ممكنات الراهن السياسي؛ عندها يبدأ التحضير لحوار وطني يجمعها مع القوى الأخرى التي دفعت فواتير الصراع وكلفة الاستبداد

بعث الإمام علي، كرم الله وجهه، رسالة إلى واليه في اليمن، الصحابي الجليل معاذ بن جبل، جاء فيها قول مأثور وحكم متداول لو تمالأ أهل صنعاء على قتل رجل لقتلتهم عليه.. ولم يكن قد علق في الأذهان يومئذ أن يتمالأ ملأ يزيد عن مئة شخص بين سياسي وقبلي وعسكري ورأسمالي على إصابة اليمن بجناية القتل البطيء الذي يجتث الأحلام من مهدها ويردي التطلعات وهي أجنة في بطون الكتب أو شعارات تثغو بها الثورات.
ولئن كان من محاسن الصدف أن يتصدر هؤلاء واجهات الحوار الوطني، إلا أنه من المستبعد تماما أن تختلف طريقتهم في المحاصصات أو أن يتحمل أيّ منهم نصيبه من غرم الجناية وتقديم مساهمته لإزالة تبعاتها، ووفقاً للعادة سيذهب الجناة إلى الحوار لبحث إجمالي التكاليف المطلوب اقتطاعها من إرث الضحية ومقدار المكافآت المفروضة على أولياء الدم مقابل جهود الجناة خلال مراحل الإجهاز على حياة وسعادة واستقرار شعب يفتش عن معنى الانتماء، ويتوق لاستعادة ذائقة الاستمتاع بنكهة الوطن.
من قال إن النوافير الكبرى بمقدورها أن تكون ينبوعاً متجدداً يرفد الوجود بالأكسجين ويمد المجتمعات بأسباب الحياة.. ومن قال إن المهرجانات التنكرية بوسعها أن تكون بديلاً عن الأوبرا الراقية! وكذلك يكون الحوار إما وسيلة لاستلهام عبقرية اللحظة التأريخية وتلبية حاجات الشعوب أو يغدو طريقة عبثية للتلصص على دخائل هذا الطرف وسبر أغواره تمهيدا لعمل مبيت ينال من القيمة الإنسانية للحوار.
إننا لا نخلط الأزمنة ببعضها فحسب، ولكننا نرتب لعملية صهر المعادن المختلفة على صورة طلسم يؤرق الضمير الوطني.
يساورني شك عميق.. وهنا أكاد أقطع بأن قوى الصراع قررت التوافق على استنزاف الإرادة السياسية الجادة لدى الرئيس عبد ربه منصور هادي في محاولة لإطالة عمر المعضلات باعتبارها مصدر استدامة الامتيازات الاستثنائية ومبرر اجتناء التمويلات الخارجية غير المشروعة، وإلا فلماذا لم نسمع الأحزاب التقليدية تلخص برامجها السياسية ورؤاها النضالية في معالجة مختلف القضايا الموزعة عناوينها على طاولة الحوار.. ما الذي يخجل هذه القوى السياسية في إرثها الفكري وتراثها الأيديولوجي اللذين يشكلان حجر الزاوية من علاقة القيادات الحزبية بقواعدها التنظيمية وجماهيرها الحاشدة في أوساط المجتمع..؟
عندما يتعلق الأمر بأداء أطراف الصراع وشراكتها في تشكيل حكومة الوفاق نشهد تناقضاً مريعاً يعرض مصالح الشعب ومقدرات الوطن للخطر، لكنها ـ دون استثناء – تدخل قاعة الحوار لتوظيف منبره الخطابي في تسويق المخاتلات والترافع باسم المستقبل وتحدياته الجمة.
ألم يكن الأجدر بهذه الأطراف أن تبدأ الحوار من طاولة حكومة الوفاق أم أن تناقض المصالح على نطاق اقتسام السلطة في الحاضر لا يلغي أهمية التوافق على تحويل الحوار إلى قاطرة انتقال خرافي من اقتسام وتقاسم السلطة حاضراً إلى تملًكها على صعيد المستقبل؟
سيقال.. لا أحد بوسعه تفصيل الواقع وفق رغبات قوى التغيير خارج مؤتمر الحوار مهما كانت مثالية تصوراتها البرامجية.. وربما أسهمت المتغيرات المضطربة في التشويش على ذاكرة الدكتور ياسين سعيد نعمان، مستشار رئيس الجمهورية نائب رئيس مؤتمر الحوار، لينفي وجود أي مشروع سياسي للتغيير، عدا وثيقة الإنقاذ الصادرة باسم أحزاب اللقاء المشترك.. وبحكم مكانة الرجل في قلوبنا نوافقه الرأي – رغم اليقين بعدم دقته – إذن فلماذا غابت هذه الوثيقة عن طاولة الحوار كموقف رسمي يعبر عن قناعات المشترك وعلى أساسها يخوض الحوار بالتناظر مع وجهة نظر الجانب الآخر من معادلة الصراع..؟
لو أن ذلك حدث لكان لدينا شكل أمثل لحوار سياسي مسؤول بين قوى الصراع التقليدي، بما فيها الأحزاب التاريخية المعنية بتغليب المصالح العليا للوطن والسعي إلى قواسم مشتركة تستجيب لحاجات المجتمع وتلبي ضرورات التغيير والتغير.. ومتى فرغت هذه القوى من إنجاز مقارباتها الحوارية وخلصت إلى رؤية أو تصور أو برنامج عمل يطور الحد الأدنى من ممكنات الراهن السياسي؛ عندها تبدأ إجراءات التحضير لحوار وطني يجمعها مع قوى المجتمع الأخرى التي دفعت وتدفع فواتير الصراع وكلفة الاستبداد، وفي مثل هذه الحالة تصبح الشراكة الوطنية تجاه مستقبل اليمن نتاجاً لمقدمات إيجابية تسمح بوضع عجلة الحوار على خط السير الصحيح إيذانا بانطلاق القطار صوب اليمن الجديد، وتصبح نتائجه جزءاً من قناعات الشعب والتزاما مبدئيا تتحمل القوى السياسية مسؤولية الوفاء به.
أَعلم أن الأمور ستجري على النحو المخطط له سلفاً.. لكن درء المخاطر أولى من حنق الخواطر.
وإذ لا أكف عن إثارة الأسئلة لا تلزمني كمامات أحتمي بها من غبار كثيف تخلفه ماراثونات المحاربين بالرايات البيضاء!!