لا يجب إلقاء اللوم على الإعلام المحلي فقط على تجاهله هذا الاكتشاف الفريد، الذي تناوله ببضعة أخبار متناثرة، بينما الموقع الرسمي لهيئة المساحة الجيولوجية السعودية لا يحتوي إلا على خبر صحفي واحد عن الموضوع
هل يعقل أن جيولوجيين سعوديين اكتشفوا جمجمة لإحدى الثديات، يقدر عمرها بتسعة وعشرين مليون سنة! أحدث دويا كبيرا في الأوساط العلمية، دون أي اهتمام إعلامي محلي معتبر، أو حتى تحقيق صحفي عابر!!
هذه الجمجمة النادرة كانت محفوظة بين طبقات الحجر الرملي من الجزء المتوسط لمتكون الشمسي في منطقة الخيف بمحافظة الجموم - 30 كلم شمال مدينة مكة المكرمة -، وجاء اكتشافها نتيجة تعاون علمي مثمر بين هيئة المساحة الجيولوجية السعودية SGS وبضعة علماء من جامعة ميتشجن الأميركية، حيث تمكن هذا الفريق العلمي المشترك من العثور على بقايا جمجمة، تحتوي على عظام الوجه، والأنف، والفك العلوي، وأجزاء من المنطقة المحيطة بالأذن، والتي صنفت بعد التحليل والدراسة على أنها من أشباه السعادين (القردة) البدائية.
ولكن قبل الحديث عن هذه الجمجمة لا بد أن نتعرف على جيولوجية الموقع التي اكتشفت فيه هذه الأحفورة، حيث تشير الدراسات إلى أن متكون الشميسي قد ترسب قبل انتفاخ أخدود البحر الأحمر في العصر الميوسيني على متكون عسفان من العصر الطباشيري المتأخر إلى العصر الأيوسيني، أي قبل انفصال قارتي آسيا وأفريقيا عن بعضهما، حيث يحتوي الجزء الأوسط من المتكون على بيئة ظهور شجر المنغروف غير البحري، بينما يقدر عمر متكون الشميسي
بـ21 - 26 مليون سنة، اعتمادا على تحليل النظائر المشعة، فضلا عن تدفقات اللابة الأكبر عمرا، التي تعلو المتكون وتعطيه عمرا يتجاوز 21 مليون عام.
قدر العلماء عمر الأحفورة المكتشفة بتسعة وعشرين مليون سنة، بناء على نتائج تحليل النظائر المشعة المستخلصة من الصخور البركانية لحرّة العجيفاء، كما ساعدت أحافير الثديات المكتشفة مع جمجمة السعدان في تحديد العمر بعد مقارنتها بمثيلاتها في العالم، هذا الاكتشاف أطلق عليه اسم سعدان الحجاز Saadanius hijazensis، نسب الاسم إلى منطقة الاكتشاف أولا وهي الحجاز، وثانيا إلى السعدان، وهو اسم عربي جامع للقردة، وينتمي سعدان الحجاز المنقرض إلى طائفة الثديات المتفرعة منها رتبة الرئيسيات، التي تضم الأنواع الحالية والمنقرضة للقردة والسعادين، والتي تندرج تحت مستوى تصنيفي أكثر تشعبا يعرف بالكاترينيات (Catarrhini) أو الرئيسيات ذوات فتحات الأنف المستقيم والمفتوحة للأسفل، والتي تضم كذلك أقدم الكاترينيات البدائية من أفريقيا، ومجموعة قردة منقرضة من أوراسيا.
ولكن ما الأهمية العلمية لمثل هذا الاكتشاف؟ الجواب أن العلماء يعتقدون أنه هذه الأحفورة تؤكد أهمية المنطقة العربية الأفريقية كمركز لتطور الـكاتاهرينات البدائية، حيث كان يسود الاعتقاد بناء على دراسات وراثية أن قردة العالم القديم انحدرت من القردة العليا وأشباه البشر بين 34.5 و29.2 مليون سنة، ولكن سجل حفريات الرئيسيات من جهة أخرى كان يشير إلى أن الانقسام بين المجموعتين الرئيسيتين قد حدث بين 23 و25 مليون سنة! مما يجعل بالتالي إحدى النظريتين خاطئة!، لكن حفرية سعدان الحجاز الجديدة؛ وحيث إنها تنتمي لأقرب سلف مشترك لقردة العالم القديم والقردة العليا، أكدت بما لا يدع مجالا للشك أن الانقسام قد حدث خلال الفترة التي أشارت إليه سجلات الحفريات، أي ما بين 29 - 28 و24 مليون سنة.
هذا الاكتشاف الهام حفّز علماء الأحافير حول العالم نحو إعادة دراسة وتقدير عمر الإنسان القديم، حيث قال الدكتور ويليام ساندرز - الذي شارك في المشروع -: إنه اكتشاف رائع، لأن لهذه الجمجمة خاصيات مشتركة بين كل قردة العالم القديم وأضاف انه لو تم إيجاد معلومات كافية عن هذا الكائن، ربما تمكن العلم من كشف بعض أسباب التطورات التي أدت إلى نشوء القردة والإنسان فيما بعد! على حد تعبيره، ونظرا لأهمية هذه النتائج فلقد نشرت عنه دراسة علمية في مجلة نيتشر Nature الرصينة، في عددها الصادر بتاريخ 15/ 7/ 2010 أحدث نقاشا علميا متواصلا حول العالم.
في الحقيقة لا يجب إلقاء اللوم على الإعلام المحلي فقط على تجاهله هذا الاكتشاف الفريد، والذي تناوله ببضعة أخبار متناثرة، بينما الموقع الرسمي لهيئة المساحة الجيولوجية السعودية لا يحتوي إلا على خبر صحفي واحد عن الموضوع، وبدون صور للجمجمة أو ما تم اكتشافه! على رغم من نشر الصور في مجلة نيتشر، فضلا عن عدم التوسع في الموضوع وأثره على اتجاهات الاكتشاف الجديدة وعلم الأحافير، كما أن الخبر ذكر أسماء المشاركين فقط، دون التعريف بهم أو بخلفياتهم العلمية وخبراتهم، كما جرت العادة في مثل هذه الاكتشافات المهمة، ولعل نظرة سريعة على موقع الهيئة تفصح عن رؤيتها لدور الإعلام بالتعريف عن جيولوجية بلادنا، فمثلا صفحة الأبحاث العلمية – رغم أهميتها - لا تزال تحت الإنشاء!، وكذلك الصفحات الأخرى تعني فقرا معلوماتيا فادحا، رغم وجود مخزون علمي ضخم لدى الهيئة.
كما أن العلماء الذي شاركوا في المهمة كانوا يتوقعون الحصول على اكتشافات جديدة، لا تقل أهمية عن سعدان الحجاز، حيث أشار البحث المنشور في مجلة نيتشر إلى عزمهم العودة للمنطقة التي استخرجوا منها الأحفورة للمزيد من الاستكشاف، مما سيفتح آفاقا جديدة لفهم طبيعة الأحياء التي تعاقبت على كوكب الأرض، ولكننا – للأسف - لم نسمع شيئا بعد ذلك، فضلا عن أن الهيئة لا تزال بعيدة عن الإعلام، وعن دورها المفترض في توعية الجمهور، وتثقيفه من الناحية الجيولوجية أو البيئية.
أما بخصوص سعدان الحجاز فنحن ننتظر شريطا وثائقيا عن رحلة البحث عن الجمجمة، ومراحل التحليل، ودراسة النتائج، وماذا تم بعد ذلك، فضلا عن ضرورة إضافتها إلى مناهج الجيولوجيا في المرحلة الثانوية، وإشراك مزيد من العلماء والباحثين السعوديين في المراحل القادمة من البحث، والأهم من ذلك عرض الأحفورة للجمهور في متحف مفتوح يطوف مناطق المملكة، ليؤكد للجميع أن تاريخ هذه البلاد أعمق مما يعتقدون.