إيران لا تزال تتحرك وفق منظور قديم ما زال يؤمن بالعمل الجاسوسي في هيئته القديمة، وبزرع الألغام المتفجرة في دول الجوار، أيضا بطريقة قديمة، وهو ما يسهل المواجهة معها

أشبه بالأخبار اليومية المألوفة تلك الأخبار التي تكتشف يوما بعد يوم عن خلية أو تجمع جاسوسي في المنطقة يرتبط بإيران. آلة السياسة الإيرانية لم تعد ترى في تلك الانكشافات المتوالية ما يبعث على الحرج، إنها الوسيلة التي تسعى من خلالها طهران للبحث عن أي تعويض للخسائر التي تتوالى حولها بشكل مستمر.
البنية السياسية في إيران عبارة عن أزمة في حد ذاتها، ونموذج للدولة الخطأ في الزمن الخطأ، فلا الواقع السياسي الإيراني قادر على تقديم واقع تنموي أو اقتصادي جديد في الداخل الإيراني، ولا التمدد السياسي المعتمد على الميليشيات والخلايا المنتشرة في دول الجوار قادر على الصمود والاستمرار، وبالتالي فحالة الخسران تكاد تتوازى داخليا وخارجيا، وهو ما يعني المزيد من تضييق الخناق على النظام. في إيران حالة من المعارضة والغليان ترتفع باستمرار نتيجة التراجع الاقتصادي والحصار الذي يفرضه العالم. الآن هناك جيل من الشباب الإيراني بات يرى في البرنامج النووي الإيراني مجرد لعنة تحاصره وتقفل عليه أبواب المستقبل، ويتحول معها بلده إلى ثكنة استخباراتية وعسكرية يديرها الحرس الثوري.
أمام هذا الواقع الذي يزداد ترديا في الداخل الإيراني، بات من الواضح أن التراجع الإقليمي للنفوذ الإيراني هو أيضا في تزايد مستمر، وعلى أكثر من صعيد.. حزب الله لم يكن مجرد قوة عسكرية إيرانية مغروسة في المنطقة فحسب، الأسوأ من ذلك أنها كانت الصوت الدعائي الوحيد الذي يكاد يجتذب جانبا من الشارع العربي تحت شعارات المقاومة والصمود. هذا الجانب كان غاية في الخطوة أيضا، لكن الأحداث التي توالت في المنطقة كشفت كيف أن ذلك الإيراني المقاوم الصامد هو الذي يشارك في قتل النساء والأطفال في سورية، مما أحدث انهيارا معنويا لـحزب الله يمثل مقدمة للانهيار الذي سيعيشه الحزب بعد سقوط النظام السوري.
طهران تحشد الآن ما تبقى لديها من قوة وأنظمة استخباراتية لفتح أنفاق جديدة داخل الخليج العربي، لكنها تقوم بكل ذلك من خلال أدوات استخباراتية تقليدية للغاية، تتمثل في إيجاد خلايا تنتشر في الدولة المستهدفة، أو من خلال إقامة ميليشيات على غرار نموذج حزب الله، وكلا هذين النموذجين باتا من نماذج العمل الاستخباراتي القديم، وأصبحا نوعا من المواجهة المكشوفة.
في العام الماضي كشفت الكويت عن خلية إيرانية كانت تقوم بالتجسس، وتم الكشف عن خلية أخرى بتعاون استخباراتي إماراتي سعودي. وما يحدث في المناطق الحدودية اليمنية والدور الإيراني في دعم جماعات التمرد الحوثية كلها شواهد على أن ما تقوم به طهران لم يعد مجرد عمل استخباراتي عادي، بل أصبح نوعا من المواجهة الواضحة.
منذ أيام وحين أعلنت الداخلية السعودية القبض على خلية تجسسية بادرت طهران بالنفي قبل أن تصل التحقيقات السعودية إلى أي شيء من ذلك، بدأت مجريات التحقيق تكشف عن ذلك الارتباط، وهو ما يفسر الاندفاع الإيراني نحو النفي المبكر.
هذه إذن حرب. والأسوأ منها أنها حرب نظام مهزوم ومرتبك ويعاني من واقع داخلي ومن تحولات خارجية تكاد تعصف بكل إيديولوجيا الثورة الإسلامية التي أنتجت واحدا من أغرب الأنظمة وأكثرها تأزما، وهو ما يعني أن المواجهة هي السبيل الأمثل. بالتأكيد ليست وفق الطريقة الإيرانية المبتذلة والقابلة للهزائم المتكررة. نعم فكل انكشاف لأي خلية تجسسية هو في الواقع هزيمة إيرانية. المواجهة تبدأ من هذا الكيان الكبير، الخليج العربي، وليست من دولة واحدة، ومن خلال مجلس التعاون وما يملكه من ثقل اقتصادي وإقليمي في العمل على المواجهة الواضحة مع هذا النظام. ويكفي أن كثيرا من دول الخليج تضم نسبة ليست باليسيرة من رأس المال الإيراني، إضافة إلى أن جانبا من الاقتصاد الإيراني يعتمد على السوق الخليجي، ومع حالة الاختناق الاقتصادي التي تسببها العقوبات الدولية سيكون أي حصار اقتصادي خليجي مؤلما للغاية. من خلال جامعة الدول العربية يمكن للخليج العربي أيضا أن يقود تحالفات حقيقية وبخاصة مع دول (الربيع العربي) التي بدأت بعض أنظمتها في التقارب مع طهران باتجاه تحجيم التعاون العربي الإيراني وباتجاه اتخاذ مواقف عربية من الدول ذات التطلع إلى إيران.
الجماعات المسلحة، وعلى رأسها حماس، يجب أيضا أن تتعرض للضغوطات اللازمة لتفك ارتباطها بإيران ولتخرج من كونها ذراعا إيرانيا محتملا في المنطقة.
من الواضح أن إيران لا تزال تتحرك وفق منظور قديم ما زال يؤمن بالعمل الجاسوسي في هيئته القديمة، وبزرع الألغام المتفجرة في دول الجوار، أيضا بطريقة قديمة، وهو ما يسهل المواجهة معها فعلا، خاصة أن أدوات المواجهة لم تعد حروبا تخضع للمنطق التقليدي.
لكي يتخذ الخليج موقفا علينا أن نؤمن حقا بوحدة المصير، وبوحدة الخصم أيضا.