لماذا عجزت القوى التقليدية في حكومة الوفاق اليمنية عن تقديم ممثلين عنها إلى مؤتمر الحوار الوطني من بين كوادرها الأكاديمية والشبابية، بدلا عن تعطيل مؤسسات الدولة والزج بالوزراء وأعضاء مجلسي النواب والشورى؟
للعرب طبيعة استثنائية ندر أن يكون لها مثيل.. ولأن العربية السعيدة أصل العرب، ومن أحشاء نكباتها خرجت الهجرات الأولى بعد سيل العرم إلى أنحاء ـ كل أنحاء ـ المعمورة، لهذا تراها أكثر تمثلا لظواهر الصراع العربي والعربي الإسلامي الخ....
ما تكاد تنقشع غمة داكنة في سمائها أو تخمد ألسنة لهب بين ضلوع أبنائها أو تتوقف حرب مستعرة فوق ترابها، إلا وقفزت قوى الصراع إلى ضفاف المحميات المخصصة لعوالم الكناري رافعة راياتها البيضاء، وفي متناولها مأثورات السيد المسيح ذات اليمين وأغصان الزيتون ذات اليسار..
وهنا.. تندلع الحروب وتتوالد الأزمات بوصفها أكثر الوسائل تدليلا على سلمية المتقاتلين.. ومن أين للحكمة اليمانية إثبات جدواها، إن لم تكن حربا يعقبها سلام، وسلما يلد أزمة أو اقتتالا؟
ومثل كل المرات، دخل اليمنيون قاعة الحوار الوطني، ووضعوا أغصان الزيتون مكان الكلاشنكوف، وأحلوا الرايات البيضاء محل الخنجر القاتل الذي يتمنطق به رجال القبائل.. غير أنهم ـ جلّهم عددا وأزكاهم عدة وعتادا ـ أشهروا الصفحة البيضاء، وقالوا بصوت المؤتلف والمختلف: سنطوي صفحة الماضي، ونولّي وجوهنا شطر اليمن الجديد.. وبمعنى آخر.. إن الماضي الذي كانوه لم يعد الحاضر الذي سيكون شاغلا بهم، ولا شيء لضحايا الأمس غير أن يصبحوا بفضل الصفحة البيضاء ضحايا اليوم، وموضوعا للنسيان في قابل الأيام.. علينا إذن إلغاء مساحة التمايز بين الضحية والجلاد، ومن واجبنا دفع ثمن الصفحات البيضاء، كما كان هذا واجبنا قبل تجربتنا مع مثيلاتها من الصحائف، التي غدت قاتمة السواد بفعل تقادم الأثر وتوارد الشواهد.
المتحمسون للوحدة اليمنية من نافذي النظام السابق يريدون الحفاظ على المنجز الوحدوي، ويعدونه جزءا من قناعاتهم العقدية، لكنهم في المقابل غير جاهزين ولا مستعدين لإعادة قيراط من ثروات الجنوب، وتصل الصفاقة عند بعضهم حد الاستعداد لاستضافة علي ناصر محمد، وعلي سالم البيض، وحيدر العطاس، وإخلاء أجنحة مستقلة لكل منهم في شاليهات جلدمور بمدينة عدن على نفقة الدولة!!
أما دعاة الانفصال، فقد وقع عليهم الرجز، واختاروا الإمعان في جلد تاريخهم الوطني المشرف بتبني الوحدة في زمن الانفصال، والنضال بالكلمة والموقف والبندقية لتحقيقها، وأظنهم لا يتذكرون اليوم مصير عشرات الألوف من الشماليين الذين خاضوا المواجهات السياسية والمسلحة منذ 79 من القرن الماضي حتى إعلان الوحدة في 22 مايو 90 وفقا لشحنات ثورية جنوبية.. وهم تحديدا تجاهلوا وجهة نظر الحركة الوطنية في الشمال حول نظام صنعاء ومشروعه العائلي وقرروا بمحض إرادتهم تسليم رأس المنجز وإدارته وقراره لرموز المشروع المتخلف، ما يجعل اندفاعاتهم العاطفية المبتهجة بالرئيس السابق علي عبدالله صالح في 30 نوفمبر طرازا مماثلا لاندفاعاتهم الحراكية المنادية بتقرير المصير.
وفي المضلع الثالث من أزمة اليمن، تبرز تطلعات ذاتية ضيقة أخرى ليس ما يحدث في صعدة آخرها، ولن يكون التفكير الجدي في نشوء دولة شيعية على خاصرة دول مجلس التعاون غير المقدمة الأولى من التجليات الدّالة على انفراط السبحة.
ومقابل هذا الرتل العارم من تعقيدات الواقع، تحاول القوى التقليدية داخل اللقاء المشترك طرح وإثارة قضايا عامة علقت فوق إخفاقاتها القديمة وهي ما تبرح عاداتها بتفجير قنابل صوتية تتملق المزاج الشعبي، وتشغل مدارك المجتمع بدويها الهائل.
ستراهم يرفعون الشعار ويمارسون نقيضه، يتحدثون بشره عن الشراكة الوطنية وينتهجون الإقصاء.. يدينون الاستئثار ويتسابقون على الغنائم، يوجهون انتقاداتهم للنظام السابق ولا يتحرجون من الأخذ بسلوكياته الاستبدادية، يعبرون عن امتعاضهم من السلطة الراهنة، وهم شركاء فيها وجزء من منظوماتها.
إننا نسأل.. إن كان هؤلاء معنيين بوضع اليمن على مدارج المستقبل، فمن الذي كبل البلاد بأصفاد الماضي؟ وإن كانوا دعاة عدالة ومساواة، فلماذا قبلوا التورط في استبعاد المشاريع الوطنية خارج معادلات المال والقبيلة والسلاح؟
ولماذا عجزت القوى التقليدية في حكومة الوفاق عن تقديم ممثلين عنها إلى مؤتمر الحوار الوطني من بين كوادرها الأكاديمية والشبابية، بدلا عن تعطيل مؤسسات الدولة والزج بالوزراء وأعضاء مجلسي النواب والشورى وعدد من المسؤولين إلى مؤتمر الحوار على حساب مهام عملهم ذات الصلة المباشرة بمصالح المجتمع واحتياجاته اليومية؟
وكيف سيكون متاحا طرح قضايا التغيير وتحدياته ونحن ما ننفك نتعسف متغيرات الحياة، ونعمل خارج منطق السنن الكونية ونطلب من الماضي أن يلبي حاجات الحاضر ومتطلبات المستقبل؟
وأي تغيير ننشده من حوار الفنادق الراقية، فيما لا تحرك الحكومة ساكنا تجاه مواطنيها الذين يكابدون مشاق التشرد – في مختلف أصقاع الأرض – ويغالبون نكد الدنيا وويلات ومذلة عزيز قوم هان.. وماذا نفعل بنقطة الضوء آخر النفق ما دامت خلف ظهر القوى السياسية المحنطة في تجاويف مغارة علي بابا...؟