في كثير من الأحيان أفضل أن أبقى وحيدا لأتأمل ما ازدحم به الفؤاد من مئات المشاهد والصور المنقولة عبر وسائل الإعلام لتلك الساحات البعيدة والمكتظة بآلاف الأرواح وملايين العيون التي تنتظر لحظة وداع هذه الحياة نتيجة بطش أسد ظالم وحقد طائفي عنصري، أسأل ثم أتوقف ثم أفكر ثم أتوقف.. ثم أسترجع ثم أتوقف.. ثم ما ألبث أن تعتريني قشعريرة المكان وحساسية الزمان وغثيان العبث الإنساني وقدرته على النظر في وجه التاريخ ليكرر دون خجل وبسبق إصرار وترصد ذات الأخطاء وبذات المنهجية، ليدلل لكل عقل ما زال يعي شيئا من إنسانيته على أن بني البشر قد جبلوا على ألا يتعلموا من التاريخ ولا أن يتدبروا دروسه.
قرأت قبل فترة رواية (بيروت 1982) لغسان شبارو التي يحكي فيها قصة حياة اللبنانيين في تلك السنة التي شهدت الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، وطردت على إثرها قوات منظمة التحرير منها، وما تلا ذلك من اغتيال للرئيسي اللبناني بشير الجميل، وتبعات ذلك من أحداث بما فيها مجزرة صبرا وشاتيلا، وقد وجدت في الرواية صورا كثيرة وحوارات سجالية متعددة وتمنطق سياسي يشبه إلى درجة مثيرة للشفقة مما يجري اليوم في عالمنا الذي ما زال يعتقد بأن الحروب وبث الفرقة بين أبناء البلد الواحد هما الوسيلة الوحيدة لخدمة مصالح الأوطان والشعوب.
ربما الهرب باتجاه الخيال في تلك الأجواء التأملية الهادئه بعيدا عن صخب التجاذبات والتوترات اليومية هو القرار الأسلم لمن هم مثلي، ممن لا يشاهدون في الواقع المحيط سوى العبثية الإنسانية وتكرار التجارب المخزية لتاريخ لم يتعلم منه البشر أي شيء، فبيروت التي مزقتها الطائفية والمحسوبية السياسية والمزايدة جعلت من لبنان اليوم كما كان قبل حربها الأهلية دولة لم تتطور سياسيا ولم تتقدم اقتصاديا ولم ترتق درجة واحدة في سلم الدول المتحضرة، بل بقي الحديث عن المحاصصة والتحزب والطائفة أساسا لهذه الدولة التي يبدو أنها أدمنت لغة الفرقة، وهو حديث يحاول البعض ممن يحيط بنا أن يحوله إلى رواية حقيقية تحمل عنوان (الخليج 2013) لتشهد أحداثا منبعها ما يرددونه على أسماعنا وعلى أسماع كل أطياف محيطنا القريب بحجة بناء الوطن اللاطائفي، وهم قد غرقوا في طائفيتهم لدرجة أصبح جليا للعيان جهة قبلتهم ومرجعية ولائهم، فمن يدعو إلى الوحدة لا يدعو إلى التقسيم، ومن يسعى إلى العدل لا يظلم خصمه لا بقول ولا بفعل.