هل يمكننا مع هذه الأمثلة المتضاربة تحييد عامل الجمعيّة والفردانيّة أيضاً عن مسؤوليته في تحديد مستوى النظام والإنتاجية في مجتمع ما، مثلما حيّدنا الظرف السياسي، والحالة الاقتصادية، والمورّث الجيني؟

إذا صحّ تعريف الجمعيّة بأنها الفلسفة الثقافية القائمة على تقديم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد فإن ذلك يدعو للتفكير في الأسباب التي جعلت كثيراً من المجتمعات الجمعيّة لا تنمو كما ينبغي، وتبدو عليها آثار الفوضى باستثناء نماذج قليلة. فالجمعيّة كما يبدو من تعريفها البسيط تعمل على إذابة الفوارق الفردية من أجل الالتفاف حول مبادئ عامة. هذه البساطة والوضوح يُفترض بهما أن يؤديا إلى العمليّة والإنتاجية كمحصلة مباشرة ولكن هذا لا يحدث غالباً. على الطرف الآخر، لماذا تبدو المجتمعات الفردانيّة منظمة ومنتجة (باستثناء نماذج قليلة أيضاً) على الرغم من التعقيد الذي تسببه الاعتبارات اللانهائية التي يجب أن تؤخذ لتقديم كل فرد، مهما اختلف وشذّ عن الغالبية، على كل ما هو ثابت وموروث في مجتمعه؟
كثيرون يحيلون مستوى نظام المجتمع أو فوضاه إلى ظروف سياسية وحضارية مختلفة تميّز كل مجتمع عن الآخر بغضّ النظر عن صفته السوسيولوجية من حيث كونه جمعياً أو فردانياً. وبالطبع أننا نقصد بالنظام أو الفوضى هنا تلك التي تعمّ مناشط الحياة بشكل عام في الظروف الطبيعية للمجتمع، وليس في أزمنة التقلبات الثقافية أو الأزمات السياسية. فدولة القانون والمؤسسات المدنية تميل لأن يكون مجتمعها منظماً ومنتجاً بغض النظر ما إذا كان فردانياً جداً كالسويد أو جمعياً جداً كاليابان، بينما دولة السلطة المطلقة والقمع المباشر تشيع فيها غالباً الفوضى الاجتماعية (وليس الفوضى السياسية بسبب سطوة النظام الحاكم)، سواءً كان ذلك في تايلند الجمعية أو جنوب أفريقيا الفردانية. ولكن برأيي أن القانون والمؤسسات ليسا كافيين لتحويل النظام إلى سلوك اجتماعي خاص بقدر ما يصبغان المجتمع بصبغة نظام عام. فقوانين دول جنوب أوروبا ومؤسساته المدنية لا تختلف كثيراً عن قوانين شمال أوروبا، ومع ذلك فيمكن بسهولة تلمّس الفروق الاجتماعية من حيث الالتزام بالنظام عندما تمشي في نابولي الإيطالية أو أوسلو النرويجية.
إن ما يشكل السلوك العام للمجتمع من حيث كونه عملياً أو منتجاً هي عوامل متداخلة ومعقدة يصعب قصرها على صفته الاجتماعية (جمعيّ أو فردانيّ). من هذه العوامل نجد الظرف السياسي والسائد الثقافي والكيان الاقتصادي، بل حتى المورّث الجيني، كل ما سبق يلعب أدواراً متشابكة تحدد في نهاية المطاف الحالة التي يعيشها المجتمع في فترة زمنية ما من حيث النظام والفوضى، والعمليّة واللا عمليّة، والإنتاجية والكسل. فمصر التي في الأربعينات ليست مصر التي نعرفها اليوم. تغيّر المجتمع في ظرف جيلين فقط رغم أنهما ظلا يحملان نفس التركيبة الثقافية، ويعيشان تحت نفس الظروف السياسية التي لم تتغير كثيراً من حيث قدرة المواطن على التأثير في مسارات الحكم، ولكن الهبوط الحادّ في الحالة الاقتصادية حوّل القاهرة من نموذج للحواضر المتقدمة في العالم إلى شعار للازدحام والفوضى والتلوُّث وصعوبة تطبيق القانون.
أن يكون المجتمع عملياً ومنتجاً هو هدف كل أفراده. وهو هدفٌ قابل للتحقيق سواءً كان المجتمع فردانياً كالدنمارك أو جمعياً كاليونان، وسواءً كانت الظروف السياسية صعبة كألمانيا ما بعد الحرب، أو سهلة ورغدة ككندا. كما أنه هدفٌ حققه العرق الأبيض في أوروبا كما تحقق للعرق الأصفر في الشرق. وثمة دول غنية تعمّها الفوضى وأخرى فقيرة تتسم بالنظام. كل هذه العوامل إذن لا علاقة مباشرة لها بانتظام المجتمع وازدياد إنتاجيته ونهضته الشاملة. السؤال المهم الآن هو: هل يمكننا مع هذه الأمثلة المتضاربة تحييد عامل الجمعيّة والفردانيّة أيضاً عن مسؤوليته في تحديد مستوى النظام والإنتاجية في مجتمع ما، مثلما حيّدنا الظرف السياسي، والحالة الاقتصادية، والمورّث الجيني؟
لا يبدو ذلك ممكناً. لأن الجمعيّة والفردانيّة ليستا صفتين سطحيتين، بل هما ناتجتان عن تجذّر ثقافي عميق في المجتمع أدّى إلى صبغه كاملاً بهذه الصفة التي لا يخطئها أحد. وهذا التجذّر الثقافي من العمق بحيث لا يمكن أن يكون دوره حيادياً عندما يتعلق الأمر بتحديد مصائر المجتمعات. فما هو العامل المشترك إذن بين المجتمعات العملية والمنتجة الذي أدى إلى نهوضها إذا كان كل ما سبق من العوامل غير مشترك بينها؟
العامل المشترك هو الجماعيّة (وليس الجمعيّة). ومدى نجاح أي مجتمع في أن يحقق أنموذجاً عملياً منظماً ومنتجاً يعتمد على قدرة أفراده على التكامل بشكل جماعي (وليس جمعيّ)، لتحقيق هذا الهدف.
(الجماعيّة) تختلف عن (الجمعيّة) في كونها تحتاج إلى (التكامل) لتتحقق، والتكامل لا يمكن أن ينشأ إلا من خلال الاعتراف بمزية كل فرد على حدة حتى يمكن توظيفه في المكان الصحيح من المنظومة الاجتماعية، بينما (الجمعيّة) لا تشترط هذا (التكامل) المعقد والمدروس بقدر ما تشترط (التكاتف) الاعتباطي القائم على حشر الجميع في مسار واحد واتجاه واحد بغضّ النظر عن ميزاتهم الفرديّة.
(الجماعيّة) إذن هي التي تحققت تقريباً في كل المجتمعات الناهضة التي طُرحت كأمثلة. اليابانيون كانوا (جمعيين) و(جماعيين) معاً من خلال سعيهم لبناء الإمبراطورية اليابانية قبل الحرب، ثم إلى بناء الكيان الاقتصادي الهائل بعدها. والألمان كانوا عكس ذلك (فردانيين) ولكن (جماعيين) من خلال مساعيهم قبل الحرب وبعدها. كل مجتمع ناهض لا بد أنه عمل بشكل جماعيّ لتحقيق هدف واضح ومحدد، سواءً اتخذ هذا العمل الجماعي صبغة (فردانية) أو (جمعية). المهم أنه كان (جماعياً) قائماً على التكامل. وكل مجتمع عاجز عن النهوض ينقصه في الغالب هذه (الجماعية)، بغض النظر عن ظرفه السياسي والثقافي والاقتصادي. وغياب هذه الجماعية يؤدي إلى تضارب الأهداف وبالتالي انقسام موارد المجتمع في تغذية الصراع الداخلي بدلاً من دفع العجلة التنموية. هكذا غاب (التكامل) كضرورة أساسية من ضرورات العمل (الجماعيّ). وإذا لم يجتمع المجتمع على تحقيق هدف النهضة، فكيف سيتحقق؟