الدكتور أبو سليمان لا يحب التأليب 'الجعجعة' في جلساته، حتى لو كان هناك تباين بيِّن بينه وبين من يخالطهم في الفقه أو الفكر، ويحب السجالات المفيدة 'الطحن' والكتابات العلمية المؤصلة

استمتعت مع من حضر (الإثنينية) الشهيرة الأخيرة بمحاضرةٍ قيمة لفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور عبدالوهاب بن إبراهيم بن محمد أبو سليمان، عضو هيئة كبار العلماء؛ عن كتابه القيم (مكتبة مكة المكرمة قديماً وحديثا.. دراسة موجزة لموقعها وتاريخها وأدواتها ومجموعاتها)، وقد أعجبني جداً حرص مؤسس الإثنينية الأستاذ عبدالمقصود خوجة ومنذ فترة ماضية؛ على أن تكرم الإثنينية المشاريع والمبادرات كالكتب والمدارس والمكتبات وغيرها.. معالي الشيخ أبو سليمان تحدث كأفضل ما يمكن أن يتحدث به أحد عن مكتبة مكة المكرمة؛ وخلص إلى جملةٍ من الآمال التي شاركه ويشاركه فيها الغيورون على الدين والوطن.
المحاضرة موجودة ويستطيع أن يصل إليها المهتمون، وقد تمت تغطيتها في الصحف والمواقع. وما يهمني هنا هو التأكيد على الرصانة، والأصالة، والمواطنة الحقة، والغَيرة، والاستقلالية، والقيم النبيلة الكثيرة التي مثلها ويمثلها الشيخ أبو سليمان خير تمثيل، ليس في هذا الموضوع فقط، بل في كل مواضيعه ومؤلفاته التي شارك ويشارك فيها.. شخصياً أُرجع هذا كله إلى سببين هامين؛ (الأول) تعلم فضيلته في حلقات العلم بالمسجد الحرام، و(الثاني) اتصافه بالصفات الفارقة التي تُميز الشخصية المكية.. عندما أقول حلقات الحرم فهذا ينصرفُ تماماً إلى الخصائص العلمية والخصائص السلوكية التي تميز بهما أولئك الرجال الأفذاذ من علماء وأئمة المسجد الحرام، وعلى رأسهم شيخه الإمام العلامة الشيخ حسن بن محمد المشاط ـ رحمه الله تعالى ـ وعندما أذكر العلامات المميزة للإنسان المكي فهذا كذلك يعود إلى الخصائص التي يتميز بها المكي؛ الذي يصفه الشيخ عبدالوهاب أبو سليمان بقوله: المكي الحقيقي: ليست لديه عنصرية عِرقية، وليست لديه عنصرية مذهبية.. ولشرح ذلك يذكر الشيخ أن التكوين المكي مبني على تعدد الأعراق، ومكة المكرمة ومنذ زمن الخليل ـ عليه السلام ـ تقبل الجميع، وقد تميز علماء المذاهب المكيون باحترام بعضهم بعضا، بل وألفوا في غير مذاهبهم، وأجادوا، وأتحفوا من بعدهم..
في الإثنينية، وعندما أردت وصف الشيخ عبدالوهاب، تذكرت مثلاً عربياً شهيراً يقال فيمن يتميز بالصخب من دون إنجاز، فقلت ـ وصححت ـ إن الشيخ لا نسمع منه جعجعةً، ولكننا نرى منه طحناً.. فالدكتور أبو سليمان، وكما تعرفه الأوساط والمؤسسات العلمية التي تسعى إليه ليكون ضمنها، لا يحب التأليب ـ الجعجعة ـ في جلساته العامة أو الخاصة، حتى لو كان هناك تباين بيِّن بينه وبين من يخالطهم في الفقه أو الفكر، ويحب السجالات المفيدة ـ الطحن ـ والكتابات العلمية المؤصلة، ولا يخفي تذمره من الأدعياء الذين عرفوا نتفاً من الفقه، وحفظوا مجموعة من النصوص؛ يتشدقون بها في كل مكان، ويرددونها أينما ذهبوا، وحيثما حلوا، ويشرح قائلاً:
إن ما تعانيه الأمة اليوم من صراع، وبلبلة فكرية هو نتاج هذه الغوغائية التي لم تتنبه لها.
اليوم وأنا أذكر بعض الأوصاف الحقيقية لهذه القامة العلمية من القامات التي زخرت وتزخر بها بلادنا المباركة ـ رحم الله من سبق، وبارك فيمن خلف ـ أشعر بالحزن الكبير على حجم التشتيت والضياع الذي أصاب بعض الناس من جرَّاء تصرفاتٍ لبعض العلماء تعوزها (كثرة) الحكمة، و(قوة) البصيرة.. يؤلمني أن أقول ذلك، ولكنها الحقيقة، والشمس ـ كما يقولون ـ لا يحجبها غربال.