سياسات أميركا في العالم تنطلق من اعتبارات سياسية واستراتيجية وليس فقط مصالح اقتصادية.. لأن نفوذها في العالم مرتبط بمدى تدخلها في حل مشاكله والتعامل مع قضاياه
ماذا يعني إعلان اكتشاف النفط الصخري SHALE OIL في الولايات المتحدة الأميركية، وأنها ستكون أكبر منتج للنفط في العالم بحلول 2020، وأكبر منتج للغاز في 2015، وسوف تكتفي ذاتيا في مجال الطاقة بحلول عام 2035؟
دعونا نعطي خلفية عن أسباب هذا الإعلان ثم نأتي على تحليل أبعاده وما يترتب عليه تجاه سياسات أميركا نحو الدول التي تستورد منها النفط حالياً..
يأتي هذا الإعلان نتيجة طريقة جديدة في استخراج النفط من الصخور في باطن الأرض عبر تهشيمها بشلالات مائية ممتزجة بالرمال ومتدفقة بضغط عال جدا لاستخراج النفط الصخري SHALE OIL وبذلك (حسب الإعلان) فإن الولايات المتحدة، المستهلك الأكبر للنفط في العالم، التي تستورد حاليا 20 في المئة من احتياجاتها منه، لن تكون بحاجة إلى نفط الشرق الأوسط بعد عقدين.
بدأ الاهتمام الأميركي بالشرق الأوسط منذ الخمسينات من القرن الماضي،إذ كان النفط يشكل عاملا مهما في هذا الاهتمام، على الأقل في نظر نخبة كبيرة بين الغربيين، على الرغم من أن اهتمام الولايات المتحدة يتعدى النفط إلى قضايا أخرى. لكن النفط هو العامل الأساس، كما يرى كثيرون. وهنا يبرز سؤالان الأول: هل ستتغير السياسة الأميركية تجاه المنطقة مستقبلا بعد زوال الحاجة الأميركية إليه خلال العقدين المقبلين؟ والثاني: هل تتأثر دول المنطقة اقتصادياً نتيجة اكتفاء أميركا ذاتياً من النفط؟ الجواب المباشر للسؤال الأول بالنفي. فالمتتبع للسياسة الأميركية يجد أن الاقتصاد ليس المحرك الأساسي لسياساتها وتوجهاتها، فهناك عوامل إستراتيجية وسياسية تحرك هذه السياسة انطلاقاً من مكانتها العالمية التي تحملها مسؤولية كبيرة تجاه ما يجري في العالم، وتحتم عليها انتهاج سياسات محددة.. فالعالم يحملها مسؤولية فرض الأمن والاستقرار وإنهاء الخلافات ونزع فتيل الحروب بين الدول التي تعاني من صراعات وخلافات وحروب.. وقد انتهجت الولايات المتحدة سياسات إيجابية ووضعت ثقلها في دول ليست فيها مصالح لها؛ ذلك لأن عدم تدخلها وبقاء تلك الحروب يشوه صورتها كدولة عظمى ويزيد نفوذ منافسيها وخصومها، وهذا يؤدي إلى تقلص نفوذها وهيبتها الدولية.
فتدخلها في إنهاء حرب البوسنة مثلا، حيث لا مصلحة اقتصادية هناك، عند ارتكاب الصرب جرائم بشعة فيها، وضعها أمام مسؤولياتها الدولية والإنسانية كدولة عظمى؛ فاضطرت لاستخدام سلاحها الجوي لوقف الصرب عند حدهم. وقد حصل شيء مشابه في كوسوفو، إذ ساند الأميركيون استقلال هذه المقاطعة ذات الغالبية المسلمة عن صربيا، ووقفوا مع أهلها الذين كانوا سيلقون مصير أهالي البوسنة، المسلمين أيضا. والجواب على السؤال الثاني: هل تتأثر دول المنطقة اقتصادياً نتيجة اكتفاء أميركا ذاتياً من النفط؟ الجواب على النحو الآتي:1- الدول المصدرة للنفط لم تعد في حاجة ملحة للاستيراد الأميركي مطلقاً ..فكما عبر تقرير وكالة الطاقة الدولية، فإن الطلب على النفط سيزداد بنسبة 7 في المئة حتى 2020 من الصين والهند تحديدا، اللتين تشهدان تقدماً تقنياً مذهلاً، وستبقيان تتمتعان بنمو كبير في المستقبل المنظور، ونفط الشرق الأوسط سيبقى مطلوبا لعقود مقبلة، وأسعاره ستتجاوز 215 دولارا للبرميل عام 2035 (أو ما يعادل 125 دولارا بالقيمة الحالية). إلا أن هذه الزيادة في الإنتاج لن تذهب إلى الدول الصناعية العشرين، لأن الطلب فيها على النفط وفق توقعات الوكالة لن يتغير كثيرا، لكن 60 في المئة من الطلب الكلي سيتوجه إلى الصين والهند وبلدان الشرق الأوسط. إلا أن كمية النفط المعروضة في السوق العالمية ستتعزز خلال العقد الحالي نتيجة تزايد الاستخراج من أعماق البحار في دول خارج منظمة 'أوبك'، لكن العالم سيعود للاعتماد على إنتاج 'أوبك' بعد 2020. 2- ستتمتع منطقة الشرق الأوسط بميزة انخفاض تكلفة إنتاج النفط.. فكثير من الدول لديها نفط.. في أعماق الأرض أو البحار أو بطون الصخور، إلا أن المحدد الرئيس للجدوى الاقتصادية للنفط أو أي منتج آخر هو كلفة الإنتاج التي تعتبر منخفضة جدا في الشرق الأوسط بسبب قرب مخزون النفط من السطح. صحيح أن أسعار النفط في السوق الآن مجدية للنفط المستخرج بأسعار مرتفعة.. لكن هذه الميزة سيبقى مردودها على دول نفط المنطقة كبيرا، وإذا حصل أن تدنت أسعار النفط فسيكون نفط المنطقة هو الباقي في السوق؛ لأنه الأقل تكلفة؛ الأمر الذي يضمن استمرار تدفقه.. وبالرغم من الحيثيات السابقة إلا أن استغناء الولايات المتحدة عن نفط الشرق الأوسط سيترك أثره في السياسة الأميركية تجاه المنطقة من حيث عدم حاجتها لبناء قوة شديدة لحماية مصالحها في المنطقة وعدم حاجتها لتأمين طرق النفط لتصبح آمنة.. وكذلك لعامل آخر مؤثر قد يدفع بتقليص الدور الأميركي في المنطقة عند استغنائها عن نفط المنطقة، وهو إسرائيل التي ستدفع بكل ما تملك من نفوذ داخل الولايات المتحدة الأميركية لتقليص دورها في المنطقة وتتفرد هي بسياسات داعمة تدفعها للمزيد من التسلط والتوسع والهيمنة.. وستلعب جماعات الضغط اليهودية هناك دوراً كبيراً لمواصلة هذا الدور وتوسيعه..وإذا حصل ذلك فستقوم دول المنطقة ببناء تحالفات ومنظومة دفاعات جديدة تأخذ في حسبانها ذلك الاهتمام المتناقص للولايات المتحدة الأميركية في المنطقة.. ويقول الخبراء إن الدول المحورية في المنطقة مثل المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية والجمهورية العراقية ستقع عليها مسؤوليات إضافية، وكذلك تركيا المستفيدة اقتصادياً والمهتمة بالمنطقة بدوافع جغرافية وتاريخية ستدخل الساحة كلاعب أساسي في هذه القضية..
وخلاصة القول؛ إن سياسات أميركا في العالم تنطلق من اعتبارات سياسية واستراتيجية وليس فقط مصالح اقتصادية.. لأن نفوذها في العالم مرتبط بمدى تدخلها في حل مشاكله والتعامل مع قضاياه كما رأينا في البوسنة والهرسك التي ليس فيها مصالح.. واكتشافها للنفط الحجري قد لا يكون له ذلك الأثر المتوقع..أما تسويق نفط المنطقة فلن يتأثر باكتفاء الولايات المتحدة الأميركية من النفط الحجري لأن الصين والهند اللتين تشهدان تزايداً مذهلا في التقدم التقني سوف تجد دول المنطقة سوقاً قوياً فيهما.. لكن هناك اعتبارا قد يدفع بتقليص دور الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، وهو الدور الذي ستلعبه إسرائيل، وإذا حصل وكان ذلك فستسعى دول المنطقة لإيجاد تحالفات جديدة ربما في الشرق، وستقوى تحالفات بعض دول المنطقة المحورية مثل المملكة العربية السعودية ومصر والعرآق وتركيا التي لكل واحدة منها مصالح قوية تدفع بهذا التحالف للنجاح.. وإذا رأت الولايات المتحدة في هذا التحالف قوة تؤدي إلى نفوذ متزايد قد تمنعه وتعيد دورها.