المبتعثون العرب إلى أمريكا في الغالب لايعودون إذا أفلحوا، كـفاروق الباز، وأحمد زويل! وإذا عادوا لايفلحون، وليتهم يقفون عند حد: أنا لما كنت في أمارِكا، ولايتعدون إلى شؤم الدنيا والآخرة، كما حدث مع سيد قطب، الذي كان أديباً وناقداً وباحثاً ثقافياً، تدرس كتبه في الجامعات، ومن أهم الأسماء التي قدمها للعالم: نجيب محفوظ ماغيره، حيث ظل يكتب خمسة عشر عاماً، وماحدِّش واخد باله! إلى أن نوَّه سيد قطب بإحدى رواياته؛ فأشرع له أبواب الشهرة والمجد ولم تغلق من يومها! وظل نجيب معترفاً بفضله، ولم يتأخر عن زيارته فور خروجه من السجن ـ رغم الملاحظة الأمنية الرهيبة ـ قبل أن يعود إليه مرةً أخيرة، ويعدم بعد أشهر قليلة!
ومادمنا في سيرة البعثات، فإن الزميل/ نجيب محفوظ، تقدم لبعثة خارجية، فور تخرجه بامتيازٍ من كلية الآداب/ قسم الفلسفة، ولكنه فوجئ بحرمانه منها، وتقديم من هم أقل! تقول: واسطات؟ ممكن! ولكنه عرف فيما بعد: أن الحاكم بأمر البعثات ظنه قبطياً؛ فاحتسب عند الله أن يحارب الصليبيين! وتعقَّد نجيب محفوظ من السفر إلى الخارج كليِّاً، إلا أنه ابتعث العالم كله إليه، وإلى مصر، والعرب، بفنه العظيم، فيما نسي التاريخ للأبد من قُدِّموا عليه، بتوع: أنا لما كنت في أماركا!!
ومادمنا في سيرة الواسطات، يروي الموسيقار العظيم/ محمد عبدالوهاب كيف تعلم الموسيقى في إيطاليا، وهو الذي لم يواصل تعليمه، ولم يحصل على الوظيفة الميري، التي كانت الفيزا إلى البعثات؛ فيقول: حصل صديقٌ لي يعمل معلماً، على بعثةٍ إلى إيطاليا ليعود معلماً للموسيقى في المدارس الحكومية، قبل فتوى الكلباني بثمانين عاماً! ولكنه لايفقه في الموسيقى شيئاً! فعرض عليَّ أن أرافقه ونقتسم اللقمة، لكي أحضر الدروس معه، وأغششه، بل وأمتحن عنه؛ حيث انشغل المعلم الحليوة بالحب، وسيرة الحب، وتصييع الحب لكل أحبابه! وحين لم يبق على نهاية البعثة إلا ثلاثة أشهر، انكشف الأمر، وفوجئ مدير المعهد بأن الواد الأصلع المتميز ليس هو المبتعث الرسمي، الذي ألغت الوزارة بعثته وأمرته بالعودة فوراً! فما كان من المدير الطلياني إلا أن منحه المدة الباقية مجاناً؛ ليكمل عبدالوهاب دراسته، ويعود قائداً للحداثة والتنوير في الفن!
وابتعث/ محمد علي باشا، إلى عاصمة النور/ باريس، أربعين شاباً مصرياً، هم مؤسسو النهضة المصرية الحديثة، ولم يكن المرافق لهم بالوااااسطة/ رفاعة رافع الطهطاوي (1801ـ 1873) إلا إماماً يصلي بهم، ويمارس شعيرة النهي عن المنكر مع من يلعب بذيله! لكنه عاد وقد تفوق في الترجمة، ليقود معركة الحداثة والتنوير، بدءاً باللغة/ الفكر منطوقاً! مؤكداً أن تجاوزات أهل الحسبة الفردية، كانت كلها بركة!