'أسرار صغيرة' هو تساؤلات وجودية كبيرة تولد مع الإنسان، وهنا تطرح الكاتبة سؤالا مهما: لماذا نخاف على أسرارنا الصغيرة.. فالكتابة تساعد على تخطي مشكلة الخوف الاجتماعي
في البدء كان سراً أودعته قلب صديقتها، حين قررت أن تنشره كسلسلة باسم مستعار (رات) عبر مدونة إلكترونية ما بين عامي (2006-2011)، فاقتضى الأمر- بعد زوال مرحلة الخوف من البوح - إطلاق رصاصة الرحمة على المدونة لا الصديقة، فتقرر نشر الأسرار الصغيرة في كتاب صدر عن دار (بلومزبري) القطرية، على أساس أن أمتع الكتابات هي تلك التي تكتبها باسم مستعار، ولكلٍّ منا أسبابه.. هنا فقط تكمن الحرية.
في كتابها أسرار صغيرة استطاعت الكاتبة والإعلامية اللبنانية ريتا خوري أن تقول شيئاً ربما لا يجرؤ على قوله كثيرون، بلغة أدبية راقية، وبشيء من السخرية أحياناً. الكتاب ثري، وفيه الكثير من الموضوعات التي تندرج ضمنياً تحت المسكوت عنه، ولا يمكن هنا تقديم قراءة عن الكتاب كاملاً، بل جزء يسير منه، وهذا أقل ما يمكن.
في نصّ يحمل عنوان الكتاب ذاته، تختزل ريتا خوري شغفها بالكتابة بقصة اللص الذي سرق مجوهراتها من منزلها، حين ركضت مرعوبة تاركة البحث عن المجوهرات والبحث عن دفاترها (الثمينة)، وتنفست الصعداء حين وجدتها صاغ سليم.
يمكنني القول هنا إن أسرارا صغيرة هو تساؤلات وجودية كبيرة تولد مع الإنسان، وربما يبوح بها لنفسه أحياناً، وهنا تطرح الكاتبة سؤالاً مهماً: لماذا نخاف على أسرارنا الصغيرة؟ مؤكدة أن الكتابة تساعد على تخطي مشكلة الخوف الاجتماعي، رغم بقاء القلق والمخاوف والأسئلة على حالها وإن ارتدت ثياباً أخرى، وتخلص إلى قناعة مفادها أن الإنسان لا يبلغ هذه المرحلة من التعارف مع الذات إلا ببلوغه مراحل متقدمة جداً من العمر، ثم تطرح سؤالاً وجودياً أزلياً: من أنا؟ من أكون؟ لتخلص إلى نتيجة مفادها أن أصعب الأمور هي مواجهة الإنسان لـذَاته ولذَّاته!
وفي نصّ بعنوان جريمة تحكي سرَّ ما اقترفته الطفولة، إذ وجدت الطفلة بيضات لأثنى طائر الحمام على نافذة، فدخلت في (مونولوج) داخلي بين النفس الخيِّرة والنفس الأمَّارة بالسوء، انتهى باقتراف الإنسان للذة القتل!
يبدو أن عقول الصغار ليست من النوع التسليمي، بل هي من النوع المتشكك والمتسائل القلق، ففي نص يحوي حواراً بين طفلة وجدتها حول الجنة والنار، برزت التساؤلات التي تنشأ في رؤوس الأطفال ليصرحوا بها دون خوف، ويليه مباشرة موضوع مشابه بعنوان موت تصرِّح الكاتبة بسؤال أزلي آخر، لاحقها في سن السابعة - مثلما لاحق الكثير من الأطفال - وهو: أين يذهب الناس عندما يموتون؟ وتخلص إلى النظرية المريحة نسبياً لـ(أوشو) الفيلسوف الروحي المعروف، بأن لحظة الموت تتشابه مع لحظة الولادة. وفي نصّ بعنوان نزولاً عند رغبة حواء تجيب الكاتبة عن السؤال (كيف تودين الموت؟) بالقول: على فراش دافئ ونظيف، بعد سهرة لطيفة، أنام مبتسمة في ليلة لا صباح لها.
من جرَّب أن يكتب رسالة إلى شخص ميِّت؟ ريتا خوري فعلت ذلك في أسرارها الصغيرة، برسالة معنونة بـأبي الذي، مبدئياً، في السماوات تلخص جزءاً من علاقة الوصاية، وربما الغيرة المدمرة، للأب على ابنته التي تقرر أخيراً الانعتاق من قيد هذه الوصاية فطارت بحريتها عالياً إلى السماوات. لكن رغم ذلك ثمة اغتراب ما في النفس البشرية، تجسده الكاتبة بسؤال في حوار ضمني بينها وبين ذاتها: من هذه الغريبة التي تسري في أجزائي كدبيب الحُمى؟ لتجيب بعد أن تمدَّ لسانها: أنا الحياة وأنتِ الموت.
تُعتبر الكتابة حالة وجودية مهمة، ولذلك يعشق الكتَّاب المكتبات والكتب ويتعاملون معها برفق. في نصٍّ بعنوان صانع الأحزان تصور الكاتبة هذه العلاقة بالنظر إلى كومة الكتب المتزاحمة التي تفيض بها الرفوف، تلمسها بحنان، فتقفز الشخصيات بين صفحاتها متحررة من قيد الحروف والحبر، ولذلك صار تدوين الاسم على كل كتاب حلاً مناسباً لها ضد تصرفات أولئك الذين يسرقونها أو يستعيرونها فلا يرجعونها، ولذلك هي على قناعة بأن سارق الكتب مجرم، وسرقة الكتاب لا تُعد حلالاً.
(نون) هو الشخص الذي حرصت الكاتبة على إهدائه كتابها، وهو الشخص الذي حرصتْ على كتابة موضوع خاص عنه، وهو- باختصار - الشخص الذي لا ينام! يمرُّ طيفه في صفحات الكتاب بين فينة وأخرى، لكنها لم تتحدث عنه كثيراً: لماذا أخبركم بقصة نون على الرغم من أني مع أن يحكي كل منا قصته بنفسه أو ليصمت؟، قدَّم (نون) نصيحة ثمينة في رسالته لها آخر الكتاب: تعرفين لماذا خسر هتلر الحرب؟... لأنه فتح أكثر من جبهة في الوقت نفسه، وأنت تقاتلين اليوم على جبهات متعددة.
لكن تجربة ريتا خوري في أسرار صغيرة صنعت بطولتها الخاصة، لتكون معركة ناجحة، وإنْ تمَّت على جبهات متعددة، مجسَّدة بذلك مقولة عبدالرحمن منيف الخالدة: الحياة وحدها بطولة.