لم يكن الشاعر بدر شاكر السياب يعاني من انفصام ذهني أو اغتراب تاريخاني، وهو يصهر قصيدته بكل معطياتها ويصون مرجعياتها الشيئية عن الاستلاب والذوبان في الآخر، بل كان مستجيباً في سياق منسوجه الشعري بذلك الفيض الموروث والشحنات العالية الكامنة خلف كونه وبنائه الشعري، وهذا سر صموده ومقاومته للانطفاء والترمد والذبول.. إنه يتعالق مع جذوره ويتحرك داخل نسغها ليتولد ذلك الإيماض وتنهمر تلك الينابيع في توازن وانسجام وصفاء طافح بالبهي والمتألق والمتفاعل مع عصره واشتعاله الحضاري.. ازدهرت قصيدته حين ألبسها روح التأصيل في بنائها النصي، وكساها حركية التجارب الإنسانية والمعنى الأعمق للحياة والوجود، فلم يتنكر لآبائه الأولين، بل عاشهم تواشجاً وتلاقحاً واستنطاقاً. يقول بدر لمجلة ألف باء: إن الذي يطلع على النقد العربي القديم في عهوده الزاهرة تروعه تلك النظرات الصائبة التي تضارع في عمقها وربما زادت في عمقها وفي وقتها وفي صحتها وفي جمالياتها ما يكتبه النقاد الغربيون، إنما لو فهمنا تراثنا ولو تطلعنا عليه اطلاعاً حقيقياً لوجدنا أن عندنا كل ما يمكن الإنسان أن يفتخر به، ولكن جماعة شعر لسبب من الأسباب يظنون أن كل ما هو غربي عظيم ورائع، وكل ما هو عربي تافه وضعيف وركيك.
إن الكتابات النثرية للسياب تسفر عن كثير من الأوجه الخفية التي شوهتها بعض القراءات التأويلية، مما هز صورته المتخيلة وأدخله منعطفات متباينة من خلال المنظور الحداثوي ومدوناته النصية، ظناً بأنه منفلت من سطوة المعتقد ورحابته واستظهاره له في مخياله الشعري ومبادئه الامتثالية. اسمعه يقول في تسجيل صوتي حين سئل عن توظيفه للرموز اليونانية في شعره وعدم توظيفه للرمز العربي سؤال وجيه، وأنا مسرور به. إن ما يصح أن يتخذ رمزاً هو حصيلة ديانات وثنية، أو ديانات تأثرت بالوثنية، كما يعرف الإنسان حين يقرأ كتاب: الغصن الذهبي للسير جيمس فريزر فيرى أن كثيراً من الطقوس الوثنية قد تسربت إلى المسيحية. أما الوثنية العربية فهي التي جاء الإسلام ليحاربها. إن أزهى عصور العرب أجمعين هو العصر الذي جاء منذ ظهور النبي محمد صلى الله عليه وسلم، إلى أن هجم هولاكو على بغداد في أواخر أيام العباسيين. فاستعمالنا لهذه الرموز يعتبر تحدياً للإسلام العظيم وللقومية العربية التي تركز ارتكازاً وثيقاً على الإسلام، فلا نستطيع أن نستعمل اللات والعزى وغير ذلك من الأساطير. ويعد هذا تحدياً للقرآن الكريم وللإسلام ولكل ما هو عظيم في تراثنا.. كثيرة هي الدلالات المبهجة في كتابات السياب النثرية والتي حققها الدكتور حسن الغرفي ونشرتها المجلة العربية.