للأمكنة شخصية، تماما كشخصية الفرد منا، بل إن شخصية المكان أعم وأشمل. وفي المملكة نجد نزوعا نحو المدنية بدواخل الريف، فتتلاشى الطرز المعمارية وتبهت شخصية الريف
إن وطننا العربي بأكمله يتأرجح بين الترييف والمدنية، آخذا طوراً جديداً من ظواهر تزحف دون هوادة، فتصبغ هذا بذاك، وتبهَت الأُطر.. أطر كنا فخورين بها، حيث تحدد الهوية الثقافية أو العقائدية سواء على المستوى المعماري أو المستوى السلوكي في فلسفة تتناول مجريات الحياة. فهناك دول تعاني من الترييف، وأخرى تعاني من المدنية، وعلى أي حال فهناك خلل ما يحدث! ولعل هذا الخلل يبدو في النسق المعماري في صورة تشكيل في الفراغ.
فالإشكالية جد شديدة الخطورة، قد تؤدي دون قصد إلى سوء فهم في تخلخل القيم، لأن هناك منمنمات دقيقة تعمل داخل كل إطار فتعمل على صبغه بصبغة مجتمعية، فتنم عن شخصية المكان.
إن للأمكنة شخصية تماما كشخصية الفرد منا، بل إن شخصية المكان أعم وأشمل. ففي المملكة نجد أن هناك نزوعا نحو المدنية بدواخل الريف، فتتلاشى الطرز المعمارية وتبهت الصورة لشخصية الريف. ولا يقتصر ذلك على الطُرُز، وإنما يمتد الحال إلى دواخل المنازل الريفية نفسها، حيث تتغير كل الأشياء ويذبل العبق الآخاذ المعطر بعبير الزمن، ونجد العاملة الآسيوية أو الأفريقية تعمل في المزارع وتحلب الأبقار وإن لزم الأمر فلا بأس من أن تطبخ أحيانا طعاما آسيويا في عمق الريف! فأنى لنا بفلكلور بعد مئة عام؟ وماذا نتركه لأحفادنا؟ ناهيك عن الطراز المعماري الزاحف على الريف؟
أما عن إشكالية المدنية، وخاصة زحف الطرز المعمارية ذات الطابع الـ ما بعد حداثي فيقول خيري منصور في مقال له في صحيفة القدس العربي في هذا الصدد: إذا صحّ ما يقوله ماكفرلين تاريخيا عن صدور بيان الحداثة في ألمانيا عام 1815 ، أي قبل حوالي قرنين، فإن أوروبا تعيش حقبة ما بعد الحداثة منذ زمن طويل، مقابل ذلك فإن العالم العربي قد أُجهضت نهضته في القرن التاسع.. بحيث تستأنف البَدْوَنَة والتَّرييف الزحف على بواكير المدنيّة التي لم تكن في حقيقتها منجزاً محلياً خالصاً، خصوصاً بعد أن تحالف رأس المال الأجنبي مع المحلي عمل على إنشاء مدن هجينة.. وهي إحدى المسودات الأولى والمبكرة للعولمة.
ونشاهد هذه الطُرُز المعمارية في أشكال مختلفة وكأنها مدن كرتونية من صنع الخيال! فالمعمار يأخذ أشكالا هندسية متفاوتة سعياً إلى التلاعب بالشكل، ولم نتوقف لحظة حول أن هذه الطرز تتبع مدرسة التفكيكية أو الـ ما بعد حداثية ذات الفلسفة الخاصة. وكان بورتوجيزي أول من طالب بتوظيف الصور image ويتسم بخاصية التلاعب الساخر بأساليب الماضي وتقاليده المعمارية، واستخدامها لخلق مفارقات وتوريات بصرية، وكان ذلك عام 1980 في إطار فينيسيا الأول. وكان هذا المعرض دليلا على فقدان الثقة في عقائد المذهب الحداثي من وجهة نظر بورتوجيزب. فالتشكيل هو ما تنبثق منه الأفكار الفلسفية ثم تسود في الفن والأدب بعد ذلك. ليس هذا أهم ما في الأمر، فالأهم هو: هل اعتنقنا الفكر الـما بعد حداثي وآمنا به لدرجة أننا نجسده في معمارنا؟ هل تفحصنا مدرسة جاك دريدا وميشيل فوكو وغيرهما؟ إن من أكبر السمات المعمارية للتفكيكية وما بعد الحداثة:
رفض الزخارف. فقد انحصرت القيمة الجمالية للمبنى بما تبديه العلاقات الشكلية للحجوم والكتل والفراغات. الكتل الإنشائية يبرزها استعمال خامات جديدة كالمعدن والزجاج واللدائن، لكي تتبع فكرة تعبر عن الحياة بالهيئة التي يشكلها العالم. تدعو إلى هدم كل الأسس الهندسية الإقليدسية.. تدعو إلى تفكيك المنشآت إلى أجزاء مرتبطة بفطرة الإنسان، حيث إن الطفل يفكك اللعبة والراديو بشغف لمعرفة محتوياته ليعرف كيف يعمل.. تدعو إلى إعادة النظر في العلاقات سواء كانت الإنسانية أو العمرانية. يمكن إدراك الأسلوب التفكيكي من الغرائز الأساسية المبهجة للإنسان، هي عمارة التكسير واللاتماثل والاتساق. هي عمارة مليئة بالمفاجآت غير المتوقعة. تستخدم مفردات العمارة الكلاسيكية بصورة معكوسة أو مشوهة أنموذجا، فالتفكيكية Deconstruction وما بعد الحداثة (Modern (Post في العمارة رغم الفروق الواضحة بينهما إلا أنهما اتفقتا على شيء جوهري، وهو الاختلاف والبعد ونقد كل ما هو تقليدي ومألوف، ويحملان في طياتهما دلالات سيكولوجية تدعو إلى رفض التراث المعماري! لأنهما انبعثتا من أرض ليس لها تراث معماري. أهم رواد هذا الاتجاه هو برنارد تاشومي Bernard Tachumi ، كما أن أهم سمة للتفكيكية أنها لا توجد حقيقة مطلقة، وهذا بطبيعة الحال ما نختلف معه عقائديا، فتشكل هذا المعمار تبنِّ لإحدى سمات التفكيكية، وهي اختصار الزمن، فاختصار الزمن واضح في التكوين المعماري في مدننا، ومن يُرِد أن يرى المعمار التفكيكي فليطلع على تصميمات المهندس الـ ما بعد حداثي فيليب كورتيليوو جونسون، الذي نرى امتداده في مدننا العربية وخاصة الخليجية منها. ولكل طراز في كل دولة انعكاس على شخصيتها من وجهة نظر المنظرين والخبراء وباحثي علم الأنثروبولوجيا، إلا أن هذا لا ينطبق على ما يجتاح مدننا، لأننا استوفدنا الشكل دون أن نتمحص في جوهر الأشياء ونعلم أنها انعكاس لفلسفات وافدة سادت على عقول البشرية دون علم أو استئذان، وهو ما أسميته في أحد أبحاثي بـالحقن تحت الجلد.
وعلى صعيد آخر نجد أن دولا عربية أخرى تئن من ترييف المدن - أي زحف الريف على المدينة - وهو يعد خللا تخطيطيا ينتج عنه فيما بعد خلل اجتماعي. واذا اخترنا رواية (عمارة يعقوبيان) لعلاء الأسواني أنموذجا لنصّ أدبي تمحور حول هذه الظاهرة وكان بطله المكان وهو العمارة، فإن كل ما لحق بالمدينة العربية بعد ثورات وانقلابات الخمسينات العربية كان حصيلة لموجات الترييف والبدونة، حيث إن الروائي قد اختار عمارة يعقوبيان التي أنشأها عميد الجالية الأرمنية بشارع طلعت حرب وهو المليونير جاكوب يعقوبيان عام 1934. فسميت باسمه فلا يقطنها إلا علية القوم. وفي الألفية الثانية زحف الريف على المدينة فأصبحت أسطح العمارة للفقراء والطبقات الشعبية فعملت على صورة هرم مقلوب لبنية المجتمع نفسه، وهو ما ينم عن انقلاب للمعيار الاجتماعي وعلى صورة الفلسفة التي تسود هذا المجتمع أو ذاك! وبالتالي فإن التخطيط العمراني لا يدرك كنه هذه المشكلة ومدى خطورتها، لكونها عنصرا شارحا لمقتضيات هذا المجتمع أو ذاك ومرآة عاكسة له، وبالتالي تُحدد شخصيته فيما بعد تبعا لذلك.
فإذا ما اعتبرنا الوطن العربي وطنا واحدا في وحدة عقيدته ولغته ووحدة انتمائه، فلننظر إلى هذا الاختلاف فيما ذكرناه، فنجده أوطانا مختلفة في جميع بنياتها الاقتصادية والفكرية والتي عكسها الطراز المعماري والتخطيط المدني لكل دولة على حدة، فهل نسعى لتلافي هذا الاختلاف في لبه والذي طرأ على شكله، لكي نظل كما كنا بلداً عربياً واحداً؟