هل ما زلنا مصرين على الاحتفاء بوسائل الإعلام الاجتماعي وعلى رأسها 'تويتر'، فنغدق عليه ألقاب التفخيم والتعظيم.. فهو إعلام المواطن، والإعلام الحر، والإعلام الحقيقي، أم علينا أن نعيد النظر في رؤيتنا له؟
مع انتشار وسائل الاتصالات الحديثة، ولاسيما مواقع التواصل الاجتماعي، التي فر الناس إليها من جمود وسائل الإعلام التقليدية وخطوطها الحمراء والصفراء والبنفسجية، وجدت الشائعات ومن يقتات على ترويجها أرضاً خصبة غير مسبوقة للتكاثر والانتشار.. أمرٌ يحاول غض الطرف عنه المهووسون بحرية الإعلام الاجتماعي المتحرر من سلطة الحكومات المحلية، والمؤسسات الدولية، والكيانات الإعلامية. فبجانب كل باب فتح من أجل معلومة صحيحة وقضية واقعية سُدت في وجهها ظلماً أبواب الإعلام التقليدي محلياً أو دولياً، فُتح ألف باب أمام القصص الوهمية، والمعلومات الخاطئة والحملات الكاذبة.
في الأيام الماضية مرت بنا على الصعيد المحلي قصتان تستحقان التوقف عندهما. القصة الأولى لفتاة قيل إن اسمها (تهاني مليباري)، كانت لها علاقات واسعة في تويتر، عرفنا فجأة أنها توفيت في حادث سير في فرنسا بعد يوم من آخر تغريدة لها، وحسابها بات يدار، ولمدة ثلاثة أيام من قبل ابنة خالتها المزعومة (سميرة حلواني)، التي قدمت لنا أيضاً عنوان العائلة للعزاء. ولأننا تربينا على أن للموت حرمة وقدسية، وأن الإنسان قد يكذب في أمور الحياة بينما يحترم هيبة الرحيل، فقد انسقنا وراء القصة، خاصة أن هناك سوابق لمغردين ومغردات كانوا بيننا وفارقوا الحياة.. وهكذا تحول تويتر إلى سرادق عزاء يضج بالدعاء للمرحومة، وفتح بعض المغردين حسابات خاصة كصدقة جارية من أجل الدعاء لتهاني، ويا لنا من شعب طيب! وكما تلاحظون فالأسماء المستخدمة هنا هي لعائلات حجازية معروفة، تماماً كما استخدمت القصة الثانية اسم قبيلة عريقة.
آخرون لم تقنعهم هذه القصة، خاصة وهم قد تصفحوا حساب الفتاة وشعروا أنهم أمام امرأة غير طبيعية من ناحية الانحلال الخلقي والهوية الجنسية. هؤلاء الأبطال ارتدوا قبعة المحقق كونان فتتبعوا الخيط من باريس، فاتصلوا بالفندق الذي ادعت نزولها فيه فلم يجدوا أحداً بهذا الاسم، ثم تواصلوا مع السفارة السعودية هناك، فأكدت عدم ورود خبر وفاة أي مواطن سعودي في فرنسا خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية، وذهب بعضهم لعنوان العزاء المذكور في جدة فلم يجدوا بيتاً تقطنه عائلة بهذا الاسم في تلك المنطقة، وكانت النتيجة ليس أن (تهاني) لم تمت، بل إنها على الأرجح لم تولد قط! وبالمزيد من البحث والتدقيق تم التوصل إلى كونها شابا استخدم هذا الحساب للإيقاع بالمغردين من الجنسين، ولسبب ما انتهى غرضه أو اكتملت خطته – أياً كانت- وحان الوقت لإقفال الحساب بطريقة درامية!
أما القصة الثانية ففيها شحنة الدراما عالية أكثر. وأستطيع أن أطلق عليها سلفاً اسم فيلم (دموع يتيمة)، وبطلتها فتاة اسمها (مها العتيبي)، اتصلت عبر برنامج (لست وحدك) من إذاعة المملكة العربية السعودية خلال الأيام القليلة الفائتة، وأبكت كل من استمع لها.. فهي شابة يتيمة الأب، وأمها لديها انفصام في الشخصية، وليس لها سند في الحياة بعد موت جدها، وليس لديها شهادة ولا وظيفة ولا دخل، وعائلتها مهددة بالطرد من مسكنها في حالة توفيت جدتها، وناشدت الوطن والمواطنين أن يساندوها قبل أن تنهار. وثارت كل مشاعر النخوة والشهامة في شعبنا الطيب، فهناك من بدأ يرغي ويزبد ويتحدث عن تقصير الدولة، متسائلين مع المذيع: أين الضمان الاجتماعي؟ وأين هم أثرياء البلد؟ وآخرون أنشدوا القصائد يستثيرون فيها نخوة قبيلتها خصوصاً، ومجموعة ثالثة لم تملك سوى الدعاء والبكاء، والمجموعة الرابعة والأهم بدأت تتقصى عن أخبارها وتحاول إيجاد صيغة عملية يمكن من خلالها تقديم الدعمين المادي والمعنوي لها.
وفي فورة الاهتمام بـ (مها) التي غدت رمزاً للمحرومين والمهمشين، نشرت عدة مصادر إعلامية، على رأسها صحيفة (أنحاء) الإلكترونية، وكذلك موقع صحيفة (الجزيرة) الإلكتروني، تصريحات منسوبة لوزارة الشؤون الاجتماعية على لسان وكيلها للضمان الاجتماعي محمد العقلا، بعد أن قامت الوزارة بالتحري عن القضية، جاء فيها: أولاً: ليس هناك (مها) ولا محافظة الخرمة في الموضوع، كما أن المواطنة الكريمة متزوجة وكذا أختها، والضمان عائل من لا عائل له، والمواطنتان كانتا مستفيدتين من الضمان قبل الزواج، أما إخوان المواطنة الكريمة فهم في سن العمل (32،30،25 عاماً)، والضمان لا يحق لقوي مقتدر.. وهي تسكن في ضاحية قريبة من الطائف، والسكن جديد ومكون من ثلاثة أدوار وتقطن في شقة منه، والسكن ملك لأحد الإخوة. ووالدتها متزوجة، بينما والدة إخوتها من أبيها فهي المريضة نفسيا مشمولة بالضمان، وصرف لها مساعدة عاجلة قبل سنة، ولديها راتب تقاعدي، وأحد الإخوة كان مبتعثا لدراسة العلوم البحرية في إحدى الدول العربية.. وكانت التبرعات من أهل الخير قد انهالت لأجلها وشملت منزلاً وما يقارب المليوني ريال سعودي، بحسب ما ذكرته (أنحاء).
فهل نحن سذج إلى هذا الحد، أم إن الآخرين قد بلغوا منزلة عالية من التمثيل؟ وعواطفنا الإنسانية العالية، وكرمنا العربي الفطري، هل يصبحان أكثر ضرراً منهما نفعاً، إذ يورطاننا أحياناً لنتعاطف مع القضايا المزيفة وأصحابها الوهميين، ولا سيما عبر التقنيات الحديثة؟
مغرد اسمه ماجد لخص الحكايتين بقوله إن العلاقة التي تربط بين الفعل من (تهاني) امتداداً إلى (مها) توضح أن عاطفتنا كما فكرنا مفعول بهما منصوب عليهما!
وهل ما زلنا مصرين على الاحتفاء المطلق بوسائل الإعلام الاجتماعي، وعلى رأسها تويتر، فنغدق عليه ألقاب التفخيم والتعظيم، فهو إعلام المواطن، والإعلام الحر، والإعلام الحقيقي، وإعلام الناشطين والمناضلين والثوار، أم علينا أن نعيد النظر في رؤيتنا له؟ فحريته وعدم خضوعه لسلطة أحد، ولا مروره بلجان تدقيق وتحقيق، والتي تعتبر أهم مزاياه، هي أيضاً من أهم عيوبه، إذ إن أبوابه مشرعة بالتساوي للأشرار كما الأخيار، وللمصلحين كما الإباحيين، وإنه كما ينجح في تجاوز الخطوط الحمراء للسلطات والحكومات لينشر الحقيقة التي لا يراد لها أن تنتشر، فهو قادرٌ في اللحظة ذاتها على تزييف الوقائع بريشة فنان.. فما الذي يمنع اليوم شخصاً لديه مشكلة مع آخر من إنشاء حساب باسمه، ويورطه في مشكلات أسرية أو قانونية؟ أسئلة جديرة بأن تطرح وتناقش لعلنا ننجح أخيراً في الاستفادة من مزاياه الرائعة مع التقليل من آثاره الجانبية.