لتعلم اللغات أصول ومناهج، وما يناسبها أيضا من المراحل العمرية، ولكن المهم ألا يكون ذلك عن طريق طمس وتجاهل لغتنا العربية، التي تسبغنا بذات الهوية
التفرنج هو إضافة الطابع الغربي، وخاصة الفرنسي منه، على الثقافة أوالطابع العربي، وكان مشايخ الأزهر يطلقون على الأجانب من الفرنسيين وغيرهم مسمى الإفرنجة.
ومما لا شك فيه أن هذا المفهوم يندرج تحت مصطلح الثقافة الفرانكوفونية. والفرانكوفونية كلمة استخدمت لأول مرة عام 1880، عندما نحتها الجغرافي الفرنسي أونيسيم ريكلو للدلالة علي الشعوب والبلدان الناطقة بالفرنسية، أما الفرانكوفونية كحركة، فترجع إلى مبادرة قامت بها مجموعة من الشخصيات السياسية، ومنهم الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، والرئيس السنغالي ليوبولد سنغفور، وذلك عام 1960؛ لدمج الثقافة الفرنسية بالثقافة العربية، وربما لتحل محلها، ومما لا شك فيه أن قيام تلك الحركة كان يرجع لشدة ارتباط هذه الدول بالثقافة الفرنسية، وعلى سبيل المثال ليوبولد كان في ذلك الوقت أديبا معروفا وعضوا في الأكاديمية الفرنسية، ومنذ ذلك الحين اتخذ هذا الاسم فرانكفوني كمصطلح لدمج الثقافتين.
ولم تسلم اللغة العربية من هذا الدمج، وإن كان أقل حدة من سيطرة اللغة الإنجليزية، وكأنها تُزحزِح اللغة العربية عن عرشها، وهي التي استقى منها الغرب معظم علومه وآدابه، فقد قال ولفريد سيغنر:// لقد كنت أفكر في أثر العرب على التاريخ العالمي. لقد فرض أعراب الصحراء ميزاتهم وخصائصهم وتقاليدهم على الجنس العربي كله. فالعادات والمعايير التي انتشرت عن طريق الفتح الإسلامي حتى شمال أفريقيا والشرق الأوسط، بل والتي شملت جزءا كبيرا من العالم، كانت كلها قادمة من الصحراء، وأخذت حضارة اليمن تندثر، لتحل محلها اللهجة العربية، وتصبح اللغة الفصحى لجميع سكان الجزيرة.
ولكن نظرتنا الدونية لهذه اللغة، هي التي سمحنا نحن لها بالتخلخل ومراوغة اللغة، إن جاز التعبير، فتطور الأمر إلى أن أصبح الفرد منا ينطق كلمة عربية واثنتين إنجليزيتين، وحين استهجنت ذلك قيل لي: إنها لا توجد كلمة أكثر دقة في العربية لتعبر عن المعنى كتلك الإنجليزية، وهي حجة واهية؛ لأن مشتقات اللغة وترادفاتها أكثر بكثير من أي لغة أخرى، وهو ما أقره المجمع العلمي للغة العربية، ولكنها وسيلة لتتباهى بأن هذا أو ذاك يحوي في جعبته بعض الكلمات ليتقيأها بين الكلمات العربية. وفي يومنا هذا أعتقد أنه لا سبيل للتباهي بهذه الطريقة، لأننا والحمد لله، صرنا نتحدث الإنجليزية بفضل الله ثم بفضل الخادمات الآسيويات اللاتي تحويهن منازلنا.
لقد سمعت إحدى صديقاتي وهي تتباهى بأنهم تركوا حفيدها للخادمة، لا يتحدث إلا معها كي يأخذ منها اللغة، فنسوا أن تعليم الطفل اللغة العربية في بداية التكوين هي من أهم مقومات جهاز النطق وبلورة الذاكرة، ولنا فيمن حفظوا القرآن الكريم خير عبرة، بأنهم أصبحوا أعلاما في العلم وفي الأدب والفن أيضا، ولا أخفي عليكم أنني أسمع كثيرا من التوبيخ والتعنيف لأطفال نطقوا الكلمة بالعربية من أهلهم؛ لأن ذلك يعد موضة قديمة أو ما يطلقون عليه بيئة أي شعبي. لماذا هذا التنكر للغتنا، ألا يعلم هؤلاء أنها سيدة اللغات؟! ويكفي أن الله سبحانه وتعالى قد اختارها لغة للقرآن الكريم، أي مجد وأي تاج كمثل هذا المجد. ولنا أن نتأمل في أسعار الحضانات والمدارس ذات اللغة غير العربية؛ لأنها تلقى ذلك الإقبال غير المحدود للتباهي والتظاهر ليس إلا.
نحن مع تعلم اللغات، فهذا ابن رشد والفارابي والخوارزمي وغيرهم ممن أسس علوم الدنيا كلها، قد تعلموا اللغة اليونانية مما لاشك فيه. وهؤلاء قمم الأدب العربي مثل طه حسين وتوفيق الحكيم وابن كثير وغيرهم قد مارسوا عددا من اللغات، فأثروا واقعنا الثقافي، إلا أنهم في الوقت ذاته كانوا علماء في اللغة العربية وهو ما جعلهم كذلك. ولكن لتعلم اللغة أصوله ومناهجه، وأيضا مراحله العمرية، وليس على حساب اللغة العربية، والتي تسبغنا بذات الهوية. فقد رأيت إحدى خريجات جامعة أجنبية لا تعرف كتابة أو قراءة اللغة العربية؛ لأنها منذ أولى سنوات الحضانة لم تتلق درسا بالعربية إلا فيما ندر وهذه كارثة!، ثم حدث تطور مخيف، وهو ظهور لغة الفرانكو آراب بين الشباب، وهو استبدال الأحرف العربية بأحرف أو أرقام إنجليزية مثال: استبدال حرف الهمزة بحرف 2، وحرف العين بـ 8 والطاء بالرمز6، والخاء بـ5، والظاء بحرفz، والعين بـ3، والحاء بـ7 إلخ...
يقول الدكتور علاء شاهين أستاذ علم الاجتماع: أن هذه اللغة انتشرت بين الشباب بفضل سيطرة الثقافة الغربية عليهم، وبسبب ضعف الانتماء لديهم، وإن استمرت هذه اللغة ستؤثر على الهوية العربية، وللإعلام دور في ذلك. إلا أننا نراها تنتشر عبر مواقع التواصل والهواتف النقالة، حتى وصل الأمر أن صدرت مجلة شبابية ربع سنوية بهذه اللغة، وهي الأولى من نوعها في مصر، وتوزع مجانا، بل وتلقى رواجا بين فئات الشباب. وقد فُسِرَ هذا الأمر بحجة أخرى، إذ إن المركز القومي للبحوث بالقاهرة قد عزا الأمر إلى اختيار الشباب لثقافة ولغة خاصة، وهو تمرد على النظام الاجتماعي، لذلك ابتدعوا لونا جديدا من الثقافة لا يستطيع أحد فك رموزها سواهم. ولكننا نرى أن تدني النظرة للغتنا، هو ما وضعها في لهاث عميق من أجل البقاء، فقد أقامت المنظمة العربية للتربية والثقافة والفنون الألكسو مؤتمرا يضم خبراء تسع دول عربية في تونس عام 2008؛ وذاك لبحث تدني مستوى اللغة العربية، وكان بعنوان مشروع النهوض باللغة العربية لدخول مجتمع المعرفة. إلا أننا نلاحظ أن هذا الأمر في تطور متلاحق، فهذه اللغة الفرانكفونية تنتشر بين الشباب، وأيضا هذا المزج بين كل كلمتين عربي/ إنجليزي لدى الكبار، ثم تعنيف الأطفال من ذويهم - إن نطقوا كلمة عربية - كي يعلنوا عن ذواتهم بأنهم من الطبقة الراقية وليسوا من طبقة البيئة، وللأسف هذا نتاج نظرتنا نحن للغتنا بنظرة دونية، ونحن لا نعلم أنها نحن.. ومنها هويتنا، فإذا أصبحت دونية أصبحنا كذلك.