يرى فريق من المفكرين العرب أن الديمقراطية ليست مجرد شعارات سياسية تُرفع ضد نظام سياسي معين، ولكنها ذات مضمون اقتصادي واجتماعي، لا يتحقق إلا بتوفر حد معين من الثقافة

-1-
عارض بعض المفكرين العرب المعاصرين، كون الديمقراطية عملية عقلانية ذات طبيعـة كيميائية صعبة التركيب، وتحتاج إلى عناصر أولية خاصة. وقالوا إن الديمقراطية مسألة روحانية. وإن الديمقراطية تقنين روحي للإنسان. وهذه هي الفكرة الأساسية التي ننطلق منها. ولا تنجلي هذه الفكرة إلا إذا تذكرنا الوصف الشائع للديمقراطية: حكم الشعب بالشعب وفي سبيل الشعب. وإن هذا الوصف يفترض قابلية الشعب لأن يحكم نفسه بنفسه حكماً فاضلاً، وينطوي على التسليم بأهليَّة الإنسان للحكم الذاتي، كما قال المفكر اللبناني حسن صعب في كتابه (الإسلام وتحديات العصر، ص 104).
والسؤال الآن: هل لدى الشعب العربي أهليّة لأن يحكم ذاته بذاته بنـزاهة وعدالة ومساواة؟ وهل رُبيَّ الشعب العربي منذ زمن على كيفية تطبيق الاستحقاقات، والآليات الديمقراطية؟ وهل لدى الشعب العربي من القادة والزعماء السياسيين القادرين على إدارة الآليات الديمقراطية المعقدة؟
ثم أين الثمن الذي دفعه، أو يدفعـه أي شعب عربي – قبل عام 2010- مقابل ما يطالب به من استحقاقات ديمقراطية، اقتُصرت المطالبة بها على النخبة المنتخبة المتمثلة بالمعارضة، والتي أُطلق عليها في بعض الأحيان نعت المرتزلة؟ (وهي المعارضة وأحزابها التي سمَّاها عبد الناصر أذناب الاستعمار، وعملاء السفارات، وسمَّاها أنور السادات طبقة الأراذل، أو الأفنديات، وسمَّتها أنظمة البعث السلطانية المرتزقة، والخونة، والطابور الخامس..إلخ).
-2-
واعتبر فريق آخر من المفكرين العرب المعاصرين، أن الديمقراطيـة مجرد مغامرة تاريخية، ولعبة في أيدي الديمقراطيين الغربيين، والطغاة الشرقيين على السواء، وقالوا إن التحول الديمقراطي الحقيقي هو مغامرة تاريخية يخوضها الحاكم والمحكومون على حد سواء. وهي مغامرة يبدؤها الحاكم بتردد شديد. وتحتاج منهم إلى جهاد مع النفس التي كثيراً ما تسوّل لهم بالتراجع عن الديمقراطية، وهم في بداية المسيرة أو في نصفها. وقصة الديمقراطية في العالم العربي هي قصة ضعف الحكام عن مقاومة مثل هذا الإغراء، كما قال الناشط والمفكر المصري سعد الدين إبراهيم في كتابه (مصر تراجع نفسها، ص 315).
-3-
والواقع أن القصة ليست فقط قصة ضعف الحكام عن مقاومـة مثل الإغراء، بقدر ما هي قصة مقاومة الشعوب لإغراء الديمقراطية، وخوفهم منها، وبعدهم عنها، وعدم التضحية من أجلها، ودفع ثمنها. وترديـد العامة أقوالاً وأمثالاً تُرغِّب في التمسك بالواقع، وعدم السعي إلى تغييره، ومنها:
- امسك بالمقصوص (تايجيك) الطيّار - من فات قديمه تاه - لا تلعن يومك حتى لا يأتيك ألعن منه - عصفورٌ باليد خيرٌ من عشرة على الشجرة - اللّي تعرفه خيراً من اللّي لا تعرفه - من رضي بما كُتب له قَنِعَ - القناعة كنـزٌ لا يفنى.
-4-
ويرى آخرون، من المفكرين العرب المعاصرين، أن الديمقراطية لعبة في أيدي الدولة الغربية، كما هي لعبة في أيدي الطغاة من الحكام والمستبدين في العالم الثالث. وكثيراً ما تخرج الدول الغربية الديمقراطية عن قواعد اللعبة الديمقراطية تحقيقاً لأغراضها السياسيـة في تأييد حزب ضد آخر أو فئة ضد أخرى، لتحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية. ومثال ذلك ما تمَّ عندما تدخلت أميركا في انتخابات البرازيل عام 1961، وعندما تدخلت في انتخابات التشيلي عام 1973، وعندما تدخلت في انتخابـات نيكاراجـوا عام 1982 لصالح المرشحين الذين يؤيدون المصالح الأميركية في هذه البلدان.
وقد تساءل الباحث والأكاديمي المصري أحمد أبو زيد قائلاً:
ما هو معنى الديمقراطية ومصيرها ومستقبلها في العالم الثالث، بعد أن انفردت أميركا وانفرد الغرب في الهيمنة على العالم؟ (الديمقراطية في العالم الثالث، ص 18).
-5-
وأكد فريق من المفكرين العرب المعاصرين، أن الديمقراطية ليست مجرد جهاز سياسي للحاكم، وليست مجرد شعارات سياسية تُرفع ضد نظام سياسي معين، ولكنها ذات مضمـون اقتصادي واجتماعي، لا يتحقق إلا بتوفر حد معين من الثقافة. وقالوا إذا كانت الديمقراطية طريقة حياة معينة، فهي بهذا المعنى تتعدى كونها جهازاً سياسياً للحكم فحسب. وتتشعب فروعها حتى تشمل جميع الحقول والمستويات في العلاقات الإنسانيـة. أما إذا انحصـرت الديمقراطية في إطارها السياسي فتصبح عبارة عن نوع من العلاقة بين الحاكم والمحكوم. كما قال المفكر والباحث اللبناني ملحم قربان في كتابه (إشكالات، ص 214). وإن الديمقراطية التي نريدها عملية تاريخيـة، وليست مجرد قرار سياسي يُتخذ. ويجب أن تعني المشروع العربي الجديد الذي لا يعتمد على شخصيـة كاريزمية كزعيم أو كقائد، وإنما يعتمد على الجماهير في تحقيق المشروع العربي. وإن معنى الديمقراطية في الوطن العربي لم يكن المطالبة بتطبيق العدالة السياسية، بقدر ما كان شعاراً يُرفع في الغالب ضد الحكم القائم، وليس من أجل حل مشكلة الحكم، التي يجب تحليلها بعمق في مواجهـة الواقع وليس بالهروب منه نحو الأحلام الأيديولوجية. وهذا ما لاحظه الباحث والمفكر المصري طارق البشري، حيث قال في كتابه (دراسات في الديمقراطية المصرية ) إن مطلب الديمقراطية بعد عام 1967 - على سبيل المثال - كان مطلباً موجهاً ضد السلطة السياسية القائمـة في مصر، رغم اتخاذ هذه السلطة الخطوات الجادة لإعادة البناء الوطني. (ص251، 252).
كما أن الديمقراطيـة لم تعد ذات مضمون سياسي فقط، بل أصبحت كذلك ذات مضمون اقتصادي واجتماعي، لا يقل أهمية في المجتمعات الحديثـة عن المضمون السياسي. وما زالت إشكاليات الديمقراطية وتجلياتها الكثيرة الشغل الشاغل لشعوب عربية مختلفة، وهي التي قلبت مختلف الموازين منذ أكثر من عامين مضيا، وما زالت حتى الآن. والحديث عن تجليات الديمقراطية ومتاعبها، ما زال موصولاً.