المدينة بلا مدنية، تصبح كورشة عمل لا غير، ينتظر من يعيش بها، انتهاء فترة الدوام، لمغادرتها كما يغادرون ورشهم أو مكاتبهم أو متاجرهم، عند نهاية الدوام. فمعظم سكانها، يغادرونها عند حلول أي إجازة
استبشر الكثيرون بتنصيب صاحبي السمو الملكي، الشابين، الأمير خالد بن بندر بن عبدالعزيز أميرا للرياض، والأمير تركي بن عبدالله بن عبدالعزيز، نائبا له، بعد أن أصبحت الرياض من أكبر وأحدث العواصم في العالم. وذلك بعد أن أمضى صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز، ولي العهد الأمين ووزير الدفاع حفظه الله ورعاه، جل سنين عمره يرعاها ويشرف على نموها وتحديثها، وكأنها فلذة من فلذات كبده، إن لم نجزم بأنها كانت بالنسبة له كذلك.
لكل فترة من فترات تأسيس ونمو المدن، العواصم خاصة منها، حالة خاصة تدار بها، حتى تشب عن طوقها وتضاهي مثيلاتها في العالم. الأمير سلمان الحكيم، سلم وبحكمة إدارة دفة عاصمتنا الرياض لجيل جديد شاب، بعد أن بناها وشيد أركانها ورعاها. أي كان سلمان الحكيم، يجمع بين يديه مهمتين صعبتين جداً، وهي البناء والتشييد وبنفس الوقت الإدارة والتمهيد. وأعني بالتمهيد هو تشييد بنية تحتية للرياض دوماً تكون جاهزة وقابلة لتطويرها ونقلها من طور إلى طور. إعمار أي مدينة، لوحده يحتاج لقرون وأعمار ليتم إنجازه، ناهيك عن عاصمة كالرياض؛ وقد أنجز سلمان الحكيم كل هذا في عمر واحد، بل بأقل منه، وهذه معجزة في بناء وتشييد المدن.
لقد تسلم صاحبا السمو الأميران خالد وتركي الرياض بكامل جهوزية بنيتها التحتية والفوقية، وما مهمتهما الآن إلا نفخ الروح المدنية في المدينة العامرة؛ فيكونا خير خلف لخير سلف. والسؤال الذي يطرح نفسه، هو هل يوجد مدينة بلا مدنية أو خالية من المدنية؟ الجواب وبلا تردد، نعم. فالمدينة سميت مدينة لكبر مساحتها وكثرة عدد ساكنيها وطول شوارعها وتزاحم وعلو مبانيها وكبر أسواقها وتوفر وتنوع البضائع بها وتعدد وتنوع فرص العمل بها؛ وكل هذا لا يعني شيئا من المدنية ولكن يعني الشيء الكثير من المدينة.
أما المدنية فهي الحالة الجمالية للمدن التي تجعلنا نتقبل العيش فيها، برغم زحمتها وتباعد مسافاتها، وتلوث جوها وارتفاع أسعارها، وفي كثير من الأحيان كثرة الجرائم والحوادث بها. في كثير من الدول المتقدمة يتم رفع مرتبات من يعيشون في المدن الكبيرة عن زملائهم الذين يؤدون نفس العمل ويعيشون في مدن صغيرة أو متوسطة؛ إغراءً لهم لتحمل أعباء العيش في المدن والبقاء فيها. هذا غير الحالة المدنية الجمالية التي توفر لسكان المدن الكبيرة نوعا من تخفيف أعباء العمل المضني بها عنهم، ولتجعلهم يتحملون سلبيات العيش فيها.
المدنية هي الإضافة الجمالية للمدن، مثل الحدائق العامة الكبيرة، إن لم نقل الضخمة، التي تكون واحدة منها علامة جمالية فارقة لها، تميز جماليتها عن بقية المدن والعواصم. وكذلك وجود المتاحف المتعددة والمتنوعة التي تمتاز بمبانيها التي تعكس ثقافة المدينة العمرانية، ومتحفنا الوطني خير مثال، ولكن الرياض بحاجة إلى متاحف أخرى متخصصة ومساندة له، مثل متحف يجسد تطور مباني البيوت القديمة وأشكالها من الداخل والخارج بالمدينة، وأسلوب العيش فيها. ومتحف للصور الخاصة بنمو وتطور المدينة، ومتحف خاص بالنباتات والأحياء الخاصة بمحيط المدينة، ومتحف تُجسّد فيه طرق ووسائل الزراعة القديمة التي كانت مستخدمة في المدينة، وأيضاً متحف خاص بحياة البادية وطريقة لبسهم وأسلوب عيشهم ومهنهم، ومتاحف أخرى تجسد لنا على الطبيعة تاريخ المدينة البشري والعمراني والنباتي وحتى الحيواني. وتجمع كل المتاحف في حي واحد إن أمكن ذلك، كمدينة للمتاحف، وتشيد مثلاً بمحافظة الدرعية.
كذلك من جماليات المدنية، هو حضور الفن بجميع أشكاله وأنواعه، من مسارح وصالات موسيقى (أوركسترا)، وصالات سينما وصالات معارض للفنون التشكيلية الدائمة التي رسمتها أنامل رسامات ورسامي المدينة. ولا غنى لأي مدينة عن مثل هذه الفنون التي تعكس جماليتها الوجدانية؛ وإلا أصبحت مدينة صماء بكماء، تتواصل مع سكانها بالإشارة لا غير. حتى الإنسان البدائي الأول الذي سكن الكهف، زينه برسوم ونقوش جمالية ليتواءم المكان مع طبيعة روحه الإنسانية المجبولة على حب وعشق الجمال والبحث عنه، كما خلقه الله كإنسان وأراد له أن يكون كذلك، يحس ويحب ويعشق ويطرب ويروح عن نفسه ويتجلى أمام الجمال ويبدع، ويتمتع بالزينة والطيبات التي وهبها الله له.
والمدن المليونية الحديثة تدار بالقوانين والأنظمة المدنية المكتوبة والواضحة التي لا تحتمل تأويلين، والدائمة التجدد والتغير والتبدل في نفس الوقت، حسب تطور المدينة ونموها وكثرة سكانها بفئات تحمل خلفيات ثقافية متعددة. ولا يمكن بأن تدار المدن المليونية بواسطة أعراف عائمة قد تجاوزتها المدن والزمن بنفس الوقت، والتي تنتمي لفئة واحدة من سكانها، والتي قد لا تكون بالضرورة تمثل غالبية سكانها، وبالتأكيد لا تمثل جميع فئاتها السكانية.
والمدينة بلا مدنية، تصبح كورشة عمل لا غير، ينتظر من يعيش بها انتهاء فترة الدوام لمغادرتها كما يغادرون ورشهم أو مكاتبهم أو متاجرهم، عند نهاية الدوام. فمعظم سكانها يغادرونها عند حلول أي إجازة، أو حتى في كثير من الأحيان عند حلول إجازة نهاية الأسبوع، لمدن تتمتع بالمدنية أو شيء منها، ليستعيدوا جزءا من جماليتهم الروحية وتوازنهم الوجداني اللذين يفتقدونهما في المدن الأسمنتية الصماء.
حيث في المدينة بلا مدنية، لا تستطيع أن تتحرك الأسرة الواحدة ككتلة واحدة ضمن برنامج ترويحي واحد، في إجازة نهاية الأسبوع، وإنما يضطر كل فرد منها إلى أن يتحرك وحده؛ حيث للأب مجموعته الرجالية الخاصة التي يجتمع بها، وللأم مجموعتها النسائية التي تجتمع معها، ولكل من الابن والابنة مجموعته الخاصة التي يجتمع بها، في برنامج متكرر وممل، قد يقود للشحناء والفرقة أكثر منه للألفة. إذاً فغياب المدنية عن المدينة يكون عاملا من عوامل تفكك الأسرة وجدانياً وعاطفياً، حيث كل فرد منها يستقل في برنامجه الترويحي، الذي يجب أن يكون جامعا للأسرة لا مفرقا لها. وقل أن تذهب الأسرة بكاملها حتى للمطاعم والتي تكون متوفرة بكثرة في المدن الخالية من المدنية.
مع كون الذهاب للمطاعم يأتي كجزء من برنامج ترويحي، ولا يأتي كبرنامج بذاته، حيث تذهب الأسرة سوياً لحضور فعالية ترفيهية جمالية ومن بعدها تذهب للمطعم، ليكون محور حديث الأسرة عن الفعالية وجمالياتها على وجبة الغداء أو العشاء. فالمدنية تنتسب للمدن وليس بالضرورة تنتسب المدن للمدنية مهما ادعت الخصوصية. فالخصوصية تتعلق بالزمان وليس بالمكان، مثل زمن التأسيس والحروب والكوارث وغيرها من الملمات.
وعلى هذا الأساس فليس من الصدفة أن يتم اختيار الأميرين خالد وتركي، حيث الأول فارس على الأرض والثاني فارس في السماء؛ لكي يصبحا فارسي تطوير ونماء، ولكي يدفعا بالرياض للأمام ويحلقا بها عالياً بين العواصم العالمية. حسن التصويب والتسديد سمة الفرسان؛ وخير تصويب وتسديد الآن هو نحو هدف التنمية المدنية لا المدينية فقط.
المدنية يا صاحبي السمو، يؤتى إليها للاستمتاع بجمالياتها، ولا تأتي أو تفرض نفسها على أحد، فمن لا يريدها لا يأتي إليها، وعليه لا يحق له بأن يطالب غيره بعدم الذهاب إليها أو بمنعها، وإلا أصبح معتد على حقوق الغير، حسب القوانين المدنية، لا العرفية.