مواقف الدول الأوروبية تتباين في الواقع حسب مصالحها وسياساتها حيال العديد من الملفات، خاصّة حيال الملفين الأساسيين المتعلقين بقضايا الشرق الأوسط وبالعلاقة مع روسيا.مثل هذا التباين يجد ترجمته على صعيد الدبلوماسية الأوروبية بالتلكؤ وبعدم الفعالية.

تتابع أوروبا مسيرتها التوحيدية، ممثّلة بالاتحاد الأوروبي، خطوات تكاملها الإداري. كانت المحطّة الهامّة الأخيرة في شهر نوفمبر ـ تشرين الثاني الماضي عندما اختار رؤساء دول وحكومات بلدان الاتحاد الـ 27 رئيسا للمجلس الأوروبي ـ رئيس أوروبا ـ بشخص رئيس وزراء بلجيكا الأسبق هيرمان فان رومبي ،وممثلة عليا للسياسة الخارجية الأوروبية هي الدبلوماسية البريطانية كاترين أشتون.
لا شكّ أن الاتحاد الأوروبي القائم يشكّل علامة مميزة في المسار التاريخي الحديث بما يمثله من ولوج سبل التوحيد بين أمم كانت قد عاشت في الأمس القريب الحروب والتقاتل. لكن رغم التقدّم على صعيد بناء المؤسسات المشتركة، هل يمكن القول إنه جرى تقدم مواز على صعيد إيجاد دبلوماسية أوروبية مشتركة حقيقية بالتحديد؟.
ما يمكن قوله كإجابة أولى هو أن السيدة أشتون تمتلك على الورق صلاحيات لا سابق لها للحديث باسم أوروبا الموحّدة. وصلاحياتها لا تخصّ الدبلوماسية فقط، لكنها تشمل أيضا مسائل متعلّقة بالدفاع والتنمية. إن وزراء الخارجية في مختلف بلدان الاتحاد الأوروبي لا يمتلكون مثل هذه الصلاحيات.
هذا على الورق فماذا على أرض الواقع؟.
ما تدلّ عليه مؤشرات عديدة هو أن مواقف الدول الأوروبية تتباين في الواقع حسب مصالحها وسياساتها حيال العديد من الملفات، خاصّة حيال الملفين الأساسيين المتعلقين بقضايا الشرق الأوسط وبالعلاقة مع روسيا.مثل هذا التباين يجد ترجمته على صعيد الدبلوماسية الأوروبية بالتلكؤ وبعدم الفعالية .
ورغم التحرّك الذي قامت به الممثلة العليا للسياسة الخارجية الأوروبية مؤخرا إلى بلدان شرق إفريقيا لـتعزيز التعاون ضد القرصنة البحرية وإلى الهند لـ التنسيق في مجال مكافحة الإرهاب وإلى غزّة بقصد البحث عن سبل تحسين الحياة اليومية لسكان القطاع ،حسب تصريحاتها ،فإن عنوان مقرّها ورقم هاتفه ـ يُنقل عن هنري كيسنجر قوله ذات مرّة إن أوروبا لا تمتلك رقم هاتف ـ ليسا هما اللذَين يتوجه لهما قادة الدول الكبرى للبحث في الملفات الهامّة.
ثمّ مَن يتحدث باسم أوروبا؟. هل هو الرئيس المعيّن للمجلس الأوروبي هيرمان فان رومبي أم الممثلة العليا للسياسة الخارجية الأوروبية السيدة كاترين أشتون أو ربما رئيس المفوضية الأوروبية خوسيه مانويل باريزو؟.اللافت للانتباه هو أن هؤلاء الثلاثة حضروا قمّة الاتحاد الأوروبي ـ روسيا في شهر مايو ـ أيار الماضي.
صحيح لم يحدث أي تدافع معلن حول المسؤوليات والتمثيل أثناء تلك القمّة بين قيادات المؤسسات الأوروبية التي اكتفت إلى حد كبير بموقع المراقب . لكن مسألة الصلاحيات، ومَن يمثّل ماذا، تبقى مطروحة في العمق. هذا على خلفية واقع أن بنود اتفاقية برشلونة الأوروبية الموقّعة بتاريخ 13 ديسمبر ـ كانون الأول2007 والتي تحدد هيكلة المؤسسات الأوروبية ليست واضحة تماما فيما يخص حدود صلاحيات الرؤوس ، بل ترجّح التحليلات عامّة على أنها تسمح ببعض التداخل.
لكن المشكلة الحقيقية، فيما هو أبعد من الإطار الإداري ومن توزيع المناصب والمسؤوليات والتمثيل ،تكمن في حالة التشكك لدى الأوروبيين حول آفاق مشروعهم التوحيدي. الأمر الذي يشكّل نقلة نوعية في الاتجاه المعاكس لحالة الحماس الذي عرفته سنوات ما بعد سقوط جدار برلين عام 1989 .هذا التشكك يمكن أن يكون سمّا خطيرا على صعيد العلاقات الأوروبية الداخلية وكابحا حقيقيا أمام لعب دور هام على المسرح الدولي .العديد من المراقبين يرددون بهذا الصدد ما يسمّونه بـ نظرية الانحطاط فيما يتعلّق بالصوت الأوروبي الموحّد اليوم.
ما ينبغي ألا ينساه أحد هو أن هذا الصوت الأوروبي الموحّد هو نتاج ما مجموعه 27 نغمة وطنية خاصّة، وكل منها محكومة بوقائع التاريخ وحقائق الجغرافيا. لكن الأوروبيين يدركون اليوم أن السياق الراهن يطرح عليهم، وعلى غيرهم، مسألة مكانتهم على المسرح الدولي. ويدركون ضرورة تضامنهم أمام التحديات التي تفرضها العولمة والعالم متعدد الأقطاب الذي تتوضّح ملامحه أكثر فأكثر.
من المهم إدراك التحديات، لكن من المهم والمصيري إيجاد سبل مواجهتها.