شاكر سليمان شكوري
أفهم أن بعض الشاشات -الخاصة- تبني مجدها المادي (الإعلاني) على منهجية الإثارة، ولي عنق الحقائق، وستر المساحة المضيئة وتجاهلها مهما تعاظمت، لحساب تضخيم المساحة المعتمة، وأن بعض الإعلاميين - أصحاب النظارات السوداء والقلوب الرمادية- يعتقدون أن مهمة الإعلام لا تتضمن شكر الإنجاز، لأن هذا هو الطبيعي، وإنما هي قاصرة فحسب على كشف القصور وتفخيمه، بل أحياناً اختلاقه وافتعاله!
أفهم هذا كله وقلبي ينفطر على تجاوز الإعلام مهمته الأساسية في البناء والتنمية، بالانجراف، إلى الاتجاه المعاكس.
لكني لا أفهم ماذا يغري ضيوف بعض هذه البرامج للإسهام في هذا النهج الخارج عن ميثاق الشرف الإعلامي، والخطير على المكون النفسي والانتمائي للإنسان، فيجلسون أمام مقدم برنامج كأنهم تلاميذ غُر أمام معلم عنيف يوجههم حيث يشاء ويطالهم رذاذ صوته الصارخ بالمهانة أحياناً؟! هل الشهرة هي المقابل، أم أن هناك مقابلاً آخر لا يظهر أمام الجمهور؟!
وفي السياق ذاته، لا أفهم كيف بمحطة وطنية ومقدم برنامج وضيوفه من أبناء الوطن، يجتمعون على الشاشة في مناسبة اليوم الوطني للبلاد، وبينما الكاميرا تنقل احتفالات المواطنين في الكثير من المناطق بهذه المناسبة، إذا بمجريات الحوار في البرنامج تطمس هذا العرس، في محاولة -غير مبررة- لإطفاء الفرحة في قلوب الناس وعيونهم، وإشاعة حالة مفتعلة من الإحباط لديهم.
فبينما الوزراء يعلنون على الشاشة عن مشاريع خدمية ضخمة أنجزت، ويضيف أحدهم -في شفافية محمودة- أنها سدت (بعض الحاجة)، مبشراً بمشاريع أخرى في الطريق لاستيفاء احتياجات المواطنين في طول البلاد وعرضها، طبقاً لاستراتيجية منهجية، إذا بالضيوف وكأنهم لم يروا ولم يسمعوا، ينصح أحدهم بإعادة النظر في النظام الاقتصادي الذي أخذ جانب الرفاه، لكن المذيع يقاطعه بسؤال عصبي استنكاري أين الرفاه؟، لأن الاعتراف بالرفاه في حد ذاته يهدد البرنامج بالسكتة القلبية! فيضطر الضيف –مرتبكاً- إلى التراجع والتبرير والتشويه.
ويتحدث ضيف آخر عن أن احتفاء المواطنين باليوم الوطني هو قرار سياسي بشرعية الحاكم والولاء له يمثل الشق الأول في العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم، لكن المواطن في المقابل يريد من الحاكم تحقيق الشرط الثاني في هذا العقد بتوفير الحياة الكريمة له، مضيفاً أن هناك روحاً سلبية عند الكثيرين، وأن بيننا من يشعر بأن هذا اليوم لا يخصه ويقول: أحتفل بأيه؟!
ثم يفاجئنا بمقولة نسبها إلى علي بن أبي طالب: حيثما يكون رزقك يكون وطنك وهو استدلال غير شفاف يعوزه المنطق والدليل، ولأربأ بالخليفة الفقيه أن تنسب إليه هذه المقولة. ويؤازره ضيف ثالث مضيفا أن كافة الخدمات يجب أن تقدم للمواطن كحق طبيعي لا كشيء يعطى له عطاء! ولا أدري كيف تصور الضيف أن الدولة تمن على المواطن بما تقدمه له من خدمات!
وحتى الوزارة حديثة الولادة، لم تسلم من النقد بالعين الواحدة المتربصة، وبفلسفة مطلوب فوراً!
فمشاريع الوزارة غير قابلة للاستدامة -برأي أحدهم- وأنها مجرد وسائل تطمين! أما الآخر فيطالب الحكومة بالابتعاد عن تولي تنفيذ مشاريعها بنفسها، وأن عليها أن توفر السكن مجاناً للضعفاء والمساكين فقط، ثم تترك المحتاجين الكثر الآخرين للسوق العقاري وآلياته! ولعله لم يدرك أن مشاريع الدولة تقصد -في الأساس- حماية المواطن من جشع هذه السوق، وينتقد أن يمر عام ونصف العام-عمر الوزارة- دون أن نرى كاميرا تنقل لنا مشروع إسكان!
وحين طالب أحد الضيوف برسم علاقة واضحة بين المشروعات الصحية الحكومية والأهلية، مشيداً بنجاح القطاع الأهلي، يقاطعه المذيع مرة أخرى معاكساً لرأيه عن القطاع الأهلي الصحي مشيداً بأن المستشفى الحكومي لا يزال الأفضل! فيمتثل الضيف لرأي المعلم تارة أخرى ويقول: طبعاً.
وعن البطالة يقترح أحدهم طرد العمالة الأجنبية (7-11 مليونا) من جزيرة العرب -بجرة قلم- دون أن يطرح البدائل المفيدة والخطة الزمنية للخلاص من هذا المأزق ودور المواطن في إعماله.
وطعن ضيف آخر بأن التوظيف المعلن وهمي، وطالب بوقف تجارة التأشيرات، رغم أن الفاعل هنا بالقطع ليس الحكومة التي تعرف واجبها جيدا في تهيئة الأسباب لمسيرتها التنموية وضمنها استقدام الأجانب، مع وضع خطة عملية لتوطين الوظائف، فهذا مبتغى الجميع وهدف وطني لا يغيب أبداً عن سياسة الدولة. وقد حازت خدمات النقل على شيء من الرضا، إلا أن أحد الضيوف طلب برفع أسعار الوقود لترشيد حركة السيارات لكنه لم يلق تأييدا لمقترحه!
وقد تردد في هذا البرنامج القول بأن سبب الأزمة، هو عدم التخطيط، وغياب الاستراتيجية والعمل المؤسساتي على المدى الطويل! وكأنها أصوات قادمة من المجهول، أو من كوكب آخر، لم تسمع عن الخطط الخمسية للتنمية التي بدأتها المملكة منذ عام 1391، ولا عن المخطط التنموي الإقليمي لها حتى عام 1450، ولا عن استراتيجيات التنمية السعودية في مجالاتها المتعددة: الاقتصادية، العمرانية، الاجتماعية والتعليمية .... إلخ، الصادر بها أوامر ملكية معلنة والجاري العمل عليها، ولا دروا باستعانة الدولة بالخبرات المحلية والعالمية في دراسة كل مشروعاتها وتنفيذها، وكأن الأمر -في نظرهم- يأتي اعتباطا منطلقا من رؤية الوزير أو المسؤول فحسب.
أما عن المشروعات الخدمية الهائلة التي حققتها الدولة السعودية، والتي قد تقع عند البعض في دائرة الإنكار أو التهوين، فإنه لو حسنت النوايا لكان الأجدر بالبرنامج أن يقوم على سؤال واحد لتبيان الحقيقة: كيف كنا قبل 82عاماً، وكيف أصبحنا الآن؟ وهو الأمر الذي يعرفه الجيل المخضرم -بين الحالين- الباقي بيننا، وعلى النخبة أن تنقله بأمانة إلى الأجيال المتلاحقة.
ولقد سلّى خاطري عما غمني مقدمة مقال للدكتور عبدالعزيز السبيل صدر في صحيفة الشرق في اليوم الوطني نفسه يقول فيها: السابقون خلافاً للاحقين قلّ أن يتساءلوا عن ماذا قدم لهم الوطن، فالحديث عن الوطن حديث امتزاج وتشكل، لم تكن هناك مقايضة في الحب والارتباط مع الأرض (الوطن). ومع ذلك فإن اللاحقين الذين يربطون بين حب الوطن وما يقدمه لهم، ممن كانت عيونهم صحيحة لا رمد فيها ينكر ضوء الشمس، يرون هذه المكانة العالية التي وصلت إليها المملكة عربياً وإقليمياً وإسلامياً ودولياً دون الدخول في تفاصيل معروفة.
كما أنها استطاعت في هذا الزمن اليسير أن تحقق نقلة حضارية مشهودة في كافة مجالات التنمية، وأن ما يميز الدولة هنا أنها تقود حركة قطار التنمية إلى ما هو أبعد من التوقعات، وبينما المواطن في الدول الأخرى يسعى لاهثاً وراء طلب الخدمة، فإن الدولة هنا تبادر بتقديمها طبقاً للدراسات والخطط الكفيلة بتنمية مستدامة وشاملة.
أفلا يكفينا هذا الأمن والأمان والرخاء والارتقاء الذي نعيشه ويغبطنا عليه الأشقاء، ويحسدنا عليه غيرهم؟!