تقول لنا إحصاءات السكان بالمملكة إن عدد الذكور متساوٍ تقريباً مع عدد الإناث إلا أن الملاحظ (ظاهراً) ولا أقول علمياً؛ لأنني هنا لا أستند إلى دراسات علمية، وأيضاً حتى أكون دقيقاً في طرحي، الملاحظ تأخر أو قُل عزوف الذكور عن الزواج في السن التي يُفترض أن يتزوجوا فيها، مما يستدعي بقوة دراسات علمية يتم بواسطتها إقامة ندوات لمناقشة هذه الظاهرة، ولا يقول لي أحد إن هناك عشرات الدراسات الاجتماعية قام بها أساتذة علم الاجتماع في جامعاتنا؛ لأن هذه الدراسات- وأنا قريب جداً من الوسط الأكاديمي وأعرف تماما خفاياه وبدقة- تهدف بالدرجة الأولى إلى حصول الأساتذة على الترقيات العلمية كهدف أول وهدف أخير.. لذلك تجد (كل) البحوث والدراسات التي يقوم بها الأساتذة الأجلاء (وأنا واحد منهم) حتى لا يقال إنني أهذر بما لا أعرف، تجد كل تلك الدراسات على الأرفف تكِّوم الغبار بعد أن حققت الهدف منها، وهو الترقية العلمية إلى درجة أستاذ مشارك وإلى درجة أستاذ، وللأسف هذه الدراسات إما أنها لا ترتقي إلى درجة معالجة المشاكل التي يعاني منها المجتمع لأنها بعيدة كل البعد عنه أو أنها لم تكن هناك آلية لتطبيق توصياتها لتحقيق حتى الحد الأدنى من الاستفادة منها، وهذه قصة طويلة لا نريد أن ندلف فيها، وهي أيضاً ليست موضوعنا اليوم.
لكنني أوردت الحديث عنها بطرف بسبب ما يدعيه بعض أساتذة جامعاتنا الأجلاء من أن هناك دراسات كثيرة لم تتم الاستفادة منها، والجواب المباشر حتى نقفل الحديث عن دراسات الترقية، أن هدف تلك الدراسات محدد وضيق، وهي لا تصلح أن تكون دراسات لحل مشكلات يعاني منها المجتمع إلا ما ندر، ومن يرد التثبت مما أقول يعمل إحصائية لتلك الدراسات ومحتوياتها ثم يحكم، لا شك أنها تتبع المنهج العلمي وهي تُحَكَّمْ وتُقبل للترقية لكن المقصود هنا أنها لا ترقى لمشكلات المجتمع المعاصرة التي يرزح تحت وطأتها ومنها موضوعنا اليوم: عنوسة الذكور.
والحقيقة أنني هنا لا أريد أن أجرؤ وأدعي أنني أقدم حلولا لكنني أطرح أسئلة لا بد من تناولها بالدراسة والبحث الميداني العملي الذي يمكن أن يقدم توصيات وآليات ترتقي للتعامل مع هذه المشكلة بنجاح، وحتى ننجح في عمل تلك الدراسات ربما يكون من الأفضل أن يشترك الشباب أنفسهم ليس فقط كعينات ممثلة Representative Sample بل أيضاً كمشاركين بالفعل، أولاً في تصميم منهجية البحث وبناء فرضياته وطرح أسئلته، وفي هذا السياق ربما يتم تكليف طلاب السنة الرابعة في قسم علم الاجتماع أن تتناول مشروعات تخرجهم قضايا وظواهر مجتمعية؛ لأن الشباب يقفون على مناظير Perspectives لا يراها غيرهم، ومشاركتهم ليس فقط في الدراسات والبحوث ومشروعات التخرج بل أيضاً في إلقاء وعرض نتائج هذه الدراسات والبحوث في الندوات والمؤتمرات التي تقام لهذا الغرض وخصوصاً المميزين منهم.
عنوسة الذكور تدخل بلا شك في منظومة القضايا والمشكلات التي يعاني منها الشباب، ولا شك أن إحدى الفرضيات أو الأسئلة المطروحة حول هذه القضية ربما تتعلق بقضايا الإسكان وقضايا الوظائف المجزية، لكن هناك من الشباب الذين نعرفهم من حولنا ينتمون إلى أسر ميسورة وبعضهم لديه وظيفة منذ فترة طويلة ويدخلون ضمن إحصائية عنوسة الذكور؛ مما يستدعي بالفعل دراسة هذه الظاهرة.
وقبل أن يحتج علينا زملاؤنا الأكاديميون أقول نعم إنه لا يمكن تعميم حالات قليلة والحكم عليها على أنها ظاهرة، هذا صحيح، وعلمياً لا يجوز، لكنني أقول إنه قد يكون مؤشرا على وجود ظاهرة من هذا النوع؛ ولهذا لا بد من إخضاع هذه الأعراض للدراسة للتثبت من أنها ليست انعكاسا لمرض خطير في المجتمع، أو لتوجه جديد للشباب في هذا العصر، ودراسة أسباب ودوافع الشباب للدخول طوعاً في إحصائية العنوسة الذكورية، هناك الكثير من الفرضيات والعديد من الأسئلة الخطيرة التي يمكن أن تكون سبباً في هذه (الظاهرة) التي نشأت حديثاً، إن دراستها ومعرفة أسبابها والحد من تفاقمها أمر في غاية الأهمية فهو يحمي المجتمع وبنات المجتمع من الانخراط في تبعات هذه الظاهرة، وإذا تم التعرف على أسبابها لا بد من المبادرة في حلها، ولا بد من قرارات عاجلة لحلها، وقد يكون من القرارات تعديل أنظمة قديمة أو وضع أنظمة جديدة، وقد يكون من ضمن ذلك تعديل أنظمة صندوق التنمية العقاري بحيث يُساوَى بين الشاب الذي لم يتزوج بعد ورب العائلة، بل حتى عكس أنظمته؛ بحيث يكون الشاب أولى من رب العائلة، ويرافق ذلك توضيح صريح لأفراد المجتمع بأن هذا تم بناء على دراسات وتوصيات علمية بنيت على بحوث علمية اتضح من خلالها أن هذا يهدف لحماية المجتمع من ظواهر جديدة تؤدي إلى الإخلال بقيمه ومثله وحتى دينه.
عنوسة الذكورة مشكلة ربما أسبابها غير مُتَصَوَّرَة، بل قد لا يريد أحد أن يصدقها من فظاعتها، سلامة المجتمع بالحرص عليه في عالم متغير متبدل متلون واجبة على أفراده، عالمنا اليوم يُخرج لنا كل يوم- بفعل تسارعه وسهولة انكشافه على العوالم الأخرى- ظواهر جديدة تبعده عن صفائه ونقائه وجماله، ومجتمعنا له من القيم السامية ما يجب الحفاظ عليها، ونحن ندرك تماماً الارتباط الوثيق بين العنوستين، وندرك تحديداً التأثير الشديد لعنوسة الذكور المختارة طوعاً على أختها الضعيفة المسالمة التي لا حول لها ولا قوة، ثم إن عنوسة الذكور مرتبطة بمشاكل شبابية كبيرة أخرى، فالربيع العربي في الدول التي تعرضت له أوقده الشباب، والعينة الأساسية لمشكلات التوظيف هي الشباب، ومشكلات المساكن المتفاقمة سببها ارتفاع نسبة الشباب في تعداد السكان، والآن عنوسة الشباب.. والشباب هو القضية لكن في نفس الوقت يجب ألا يكون هناك فعل دراسة كان أو منتدى أو لقاء دون أن يشكل الشباب مادته الرئيسة، ودون مشاركة فاعلة منهم.
لا تتوقعوا أننا بتعالينا وفوقيتنا وأستاذيتنا التي نمارسها على الشباب بزعم أننا نحل مشاكلهم، أننا أقدر منهم على الحل، هذا غير صحيح، فكل أمر يتعلق بالشباب ويهدف لخدمتهم لا بد أن ينطلق منهم لكي يكون الحل أكثر نجاحاً والنتيجة أكثر فاعلية.
وخلاصة القول، أرفع هنا بهذا المقال رأية حمراء مكتوب عليها عنوسة الذكور للفت النظر لها بجدية متناهية لِتُدرس بشكل علمي واقعي بعيد عن التنظير.