يجب أن نتنادى لإحياء ثقافة العمل، ونحارب تلكم النظرة الدونية للمهن، والأنا النرجسية المتضخمة التي أقعدتنا عن أن نزاحم أمم البسيطة في ميدان التدافع الحضاري الكوني
اهتبلت فرصة إجازة منتصف الفصلين كي آخذ أبنائي إلى مدينتي الأحبّ، تلك التي تختال بين الجبال كعروس للمصائف أجمع، مدينة الطائف، حيث الطفولة ومدارج اليفاعة وملاعب الشباب. وفي كل زيارة لعاصمة العمر تلك، أحرص على سوقهم قسراً لسوق المدينة القديم، لأوصل رسائل تربوية لهم، وبالطبع لأزهو أيضاً بذكريات عملي وأنا يافع في (خان القاضي)، إذ كان آباؤنا يحرصون في تلكم الأزمنة على أن يلتحق الابن منذ طفولته كـ(صبي) في أحد المحلات؛ ليتعلم ويعمل، ويمتهن مهنة شريفة تفيده في مستقبله، وليكتسب خبرات لا يصل إليها إلا عبر العمل، وكم أفادتني تلك الثقافة العائلية بحياتي لاحقاً.
الأبناء من حولي يتضجرون، وأسمع تعليقاتهم الهازلة، وأنا أشير لمحل (عبدالحفيظ اللباّن) بذلك السوق العتيق، وفول (الشاولي)، ومحل عيش (الفتوت)، وأرى ابتساماتهم المتهكمة عليّ، فيما أنا سادرٌ بتلك الذكريات، وغير عابئ بجيل (المولات) العملاقة، ومطاعم الوجبات السريعة والقهوة السريعة التحضير.
أمشي بين أزقة السوق، أرمق السابلة بكثير من الحنين، وأعيش لحظات خاصة، تستولي على حواسي كلها، أحلق فيها عبر سنوات طويلة، والصور تنثال أمام عيني لكل تلك الأيام التي قضيتها، وأنا أعمل في يفاعتي تلك. أستحضر ثناءات أبي وفخره بي، وتلك السعادة التي ترتسم على وجه والدتي وقتما أنقدها – كاملاً - أجري الزهيد نهاية كل شهر، كتصرّف محتم بتلك الثقافة التي ترعرعنا عبرها، والتي تعطي الأم المنزلة الأولى على الإطلاق.
أتذكر تماماً كيف تعلمت في تلك السنّ المبكرة التعامل مع الزبائن، وفرز أمزجتهم وطرائق استرضائهم، وكم كان ذلك اليوم تأريخياً بالنسبة لي، عندما تسلمت مفتاح محلّ الأقمشة لأفتحه لوحدي، وأنا بسنّ الثانية عشرة.
تقرير هذه الصحيفة الرائدة عن عمل عشر من فتياتنا الفاضلات في النظافة، هو الذي دعاني لسرد هذه السيرة الخاصة، وأنا أقرأ ما تموج به مواقع التواصل الاجتماعي من استنكار شديد، وحملة شعواء ضد العمل الشريف الذي قامت به تلكم العفيفات الشريفات يحفظهن الله.
لدينا إشكال عام في ثقافة العمل، ولنعترف بأن بعض الثقافات الجاهلية متجذرة في مجتمعنا، حيث تعيب بعض المهن، وهذه الثقافة لا أصل شرعياً لها، بل تقاليد اجتماعية متخلفة، جعلتنا ننسب فئات من المجتمع لها، ونؤصل لطبقية لا يقرها الإسلام أبداً، ولم يعط أحبتنا الدعاة والعلماء والمصلحون الاجتماعيون جهدهم المطلوب في اجتثاثها، وربما مهن معدودة وردت كالحجامة مثلاً، وثمة من يستكرهها من العلماء، ولكن تظل في إطارها الضيق، ولا تخالف الأصل الذي يدعونا فيه الدين - بحشد هائل من الأحاديث الصحيحة - للعمل الشريف، أيّاً كانت المهنة.
نحتاج فعلاً – الآن- أن نكرّس ثقافة العمل في أجيالنا، وأن نجعلهم فخورين وهم يعملون، وما علمنيه أبي –يرحمه الله- طبقته بحذافيره مع أبنائي، إذ وهم في المرحلة المتوسطة، كنت أبحث لهم عن أعمال في الإجازة الصيفية، ليس من أجل من المال، بل من أجل أن يكتسبوا الخبرات، ويعيشوا روعة الكدّ من أجل تحصيل القرش، وتطليق السهر وبعض الرفاهيات التي يتنعّمون بها طيلة العام، وكنت أقول لصديقي العزيز إبراهيم بادود المشرف على باب (رزق جميل) في شركة عبداللطيف جميل، بأنني مستعد لدفع مرتباتهم، ولكن ليعملوا ويتعلموا عندكم. وفعلاً أمضوا كل سنواتهم في المرحلة الثانوية، يعملون في الصيف، بل هم من كانوا يبحثون– لاحقاً- ليعملوا، بعدما استطعموا لذة كسب الرزق بعرق جبينهم، والصيف الفارط كان ابني الأكبر أسامة -الطالب في كلية الطب- يعمل بتنظيف الخضار والفاكهة في شركة (بنده)، وابني الآخر أسيد -الطالب في المرحلة الثالثة بجامعة الملك فهد- يعمل نادلاً في (بيتزاهت)، وكم فخرت بحقّ به، وأنا أصطحب عائلتي للمطعم الذي يعمل فيه، وهو يباشرنا ببدلة الشركة التي يعمل بها.
تجربة الأبناء، وتلك الثقافة التي سرت في محيط عوائلنا، إذ يتسابق اليوم كل أفراد العائلة للعمل في الصيف، هي ما يدعوني هنا إلى المناداة بحملة وطنية مكثفة من كل فئات المجتمع، لتجذير ثقافة العمل لدى ناشئتنا، وإشاعة روح الفخر بالابن الذي يعمل في أية مهنة شريفة، حتى لو كان يقوم بغسل البلاط، ومسح الموائد، ومباشرة الزبائن، ولنا في تلك الدول المتقدمة علينا في الغرب مثالاً، إذ لا يستنكف الطلبة الجامعيون امتهان تلك الأعمال، لسداد أقساطهم الدراسية.
سيشهر في وجهي – وغيري ممن يرون هذا الرأي- السؤال الصافع: هل ترضاه لابنتك؟ وأنا أجيب بالفم الملآن، بل والله أفخر، أن أرى ابنتي تعمل وتكنس وتنظف في أي موقع عمل آمن، يوفر لها الخصوصية، دون أن يمنعها هذا من إكمال حلمها في دراسة الطب.
يحتج الأحبة بأننا في بلد البترول، ذي الميزانية الترليونية، ولكن يا سادة والله، هذا البترول لن يدوم لنا، والميزانية الترليونية لن تبقى على الدوام، ولكن ثقافتنا هي التي تبقى، وجيلنا الذي نعدّه اليوم ليتسلم غدا قيادة وطننا، هم الذين يبقون، وهم رأس مال هذا الوطن الحقيقي.
يجب أن نتنادى لإحياء ثقافة العمل، ونحارب تلكم النظرة الدونية للمهن، والأنا النرجسية المتضخمة التي أقعدتنا عن أن نزاحم أمم البسيطة في ميدان التدافع الحضاري الكوني، فلا عيب أبداً في العمل وكسب الرزق من أية مهنة شريفة، ودونكم مثالاً الشيخ سليمان الراجحي أحد أباطرة المال في بلادنا، فقد كان هذا الملياردير يعمل (حمّالاً) في سوق بريدة، ويتفاخر ببداياته تلك، ولعمر الله لهو درس لنا جميعاً في احترام المهن.
فتياتنا في بريدة، نفخر بكنّ والله، وقد ضربتن للمجتمع مثالاً في الكسب الشريف.