المثقفون والمبدعون الكبار، يكادون يتشابهون، كون أغلبهم كانوا ينطلقون في إبداعهم من الانحياز للإنسان، كي يتفيأ تلك القيم النبيلة العليا للحياة، مصحوبة بكل مفردات الجمال والحق والمساواة.
دون أن تكون ثم قضية محددة ترهق أفئدة أولئك الكبار، هناك تفاصيل، مختلفة تبعا لاختلاف سياقات ثقافية وتاريخية وحتى أيديولوجية. بعضهم ينحاز للجمال الخالص، للفن البحت، وتلك انحيازات تعتبرها بعض الاتجاهات النقدية، قمة التقدمية، من منطلق ممارسة أقصى التمرد على القوالب الجاهزة والمستهلكة على مر التاريخ، وهذه الفصيلة من المبدعين على العموم قلة، وعادة ما تكون منبوذة أو مهملة – سيان- في المجتمعات، خاصة تلك التي تعيش واقع ما قبل الحداثة، ذهنيا وماديا. وهي تلك المجتمعات التي تطلق عليها لغة إعلام العصر الحديث (الدول النامية) وعلى طريقة الكوميديا القاتمة الشهيرة (الدول النايمة) ويمكن تخفيف الوضع بوصف (الدول التي طالت وهي نامية) ويخشى أن تقوم الساعة وهي ما زالت تنمو.
المهم أني محليا عرفت مبدعين عالقين ما بين البدواة والتحضر، ما بين الريف والمدينة، في الفن طليعيون حد التطرف، لكنهم اجتماعيا وسلوكيا عكس ذلك تماما، والأشنع من كل هذا أن يقارب بعضهم ويخالط ممارساته نفس شيفوني بغيض، لا يليق بإنسان، فما بالك حين يكون مثقفا، أو كما يفترض.
قد تبدو العلاقة ملتبسة بين ما بدأت به، وما توصلت إليه الآن.
لكن – عندي – لا التباس، فعندما تكون الرؤية مشوشة، التي يمكن اعتبار التكوين الهش سببا جوهريا في تسيدها، يكون بالضرورة أن نجد مبدعا يقضي وقتا طويلا في دهاليز الإبداع، دون أن يختط له دربا يميزه، دربا يتيه فيه وحده، ويمشي بخيلاء المبدعين الكبار، الذين تخلدهم أعمالهم، ولا شيء سوى أعمالهم.
التاريخ يتحفنا بأسماء كثيرين أثاروا ضجيجا وزوابع، ولكن أعمارهم في الذاكرة الجمعية قصيرة جدا، وبعضهم لا تذكرهم إلا دراسات بحثية خالصة ومحدودة الرواج.
أتذكر الآن حدوتة صغيرة قرأتها عن بيتهوفن، وهو الذي أصيب بصمم بسيط سنة 1802، فبدأ في الانسحاب من الأوساط الفنية تدريجياً. ومع ازدياد الصمم، امتنع عن العزف في الحفلات العامة، وابتعد عن الحياة الاجتماعية واتجه للوحدة، وقلت مؤلفاته، وأصبحت أكثر تعقيداً. حتى إنه رد على انتقادات نقاده بأنه يعزف للأجيال القادمة. وبالفعل ما زالت أعماله حتى اليوم من أهم ما أنتجته الموسيقى الكلاسيكية العالمية.. يروى أنه اختلف مع أحد المسؤولين في البلاط الفرنسي، فوقف بخيلاء الفنان مخاطبا: اسمع، مثلك يتكررون باستمرار، أما بيتهوفن فلا يظهر في التاريخ إلا مرة واحدة. ومضى..