الكثيرون من موظفي خطوط 'الدلتا' وافقوا على تقديم تبرعاتهم لإنقاذ شركتهم عبر استقطاع شهري من رواتبهم، بلغت نسبة من شارك في التبرع 77% من مجموع القوى العاملة بالشركة!

في الحقيقة لم أكن أعلم كم صفرا على يمين الثلاثين مليونا!! هكذا تقول مضيفة الطيران جين أوينز Jean Owens وتضيف: كنت أعتقد أن الموضوع لن يستغرق سوى أسبوعين أو شهر واحد على الأكثر، بتلك الكلمات البسيطة كانت انطلاقة إحدى أروع قصص ولاء موظفين لشركتهم، سطرت بمداد من وفاء لا يكاد يصدق.
شرارة الفكرة بدأت غرّة عام 1982، حينما استمر مسلسل ارتفاع أسعار وقود الطائرات، وأصيبت صناعة الطيران الأميركي بصدمة شديدة، حتى إن عملاق الطيران خطوط الدلتا Delta airline حققت أول خسارة لها بعد خمسة وثلاثين عاما من الربح المتواصل، لكن الشركة ورغم تحقيقها الخسارة إلا أنها – وفي خطوة جريئة - قامت برفع رواتب موظفيها جميعهم، مما حدا بالصحيفة الاقتصادية الرصينة الوول ستريت أن تنصح المستثمرين بتجنب أسهم الشركة!
على الفور وخلال رحلة توقف سريع في مدينة جاكسونفيلا في ولاية فلوريدا، قامت جين بمناقشة فكرتها بصوت مسموع مع زميلتيها المضيفتين Diane وGinny، كانت الفكرة الجنونية بكل بساطة: أن يسهم موظفو الخطوط في شراء شركتهم لطائرة بوينج 767، والتي كانت قد بدأ إنتاجها مؤخرا في مصانع بوينج وتعتبر الأكبر والأحدث من نوعها، نظرا لعدم قدرة الشركة في الوقت الحاضر على شرائها بسبب أزمتها المالية، لتكون هديةً لشركتهم التي يعشقون بيئة عملها المميزة، وكنوع من رد الجميل حينما رفعت الشركة رواتبهم رغم كل النصائح الخارجية، التي كانت توصي بتقليص الرواتب، وتسريح جزء من موظفيها.
وافق تنفيذيو الشركة على الفكرة بمضض، فلقد كانت التكلفة عالية جدا، حيث كان المبلغ المطلوب ثلاثين مليون دولار أميركي، وهو رقم كبير ليس فقط بمعايير عقد الثمانينات، بل بمعايير هذا العصر أيضا، وخلال أيام قليلة بدأ الهوس بهذه الفكرة المجنونة ينتشر، ليس في إدارات وفروع الشركة فقط، بل عبر البلاد كلها! وانضم إلى الثلاث مضيفات عشرون متطوعة أخرى. لم يكن هناك ضغط إداري على أحد في الشركة للحث على المشاركة المادية، ولكن الكثيرين وافقوا على تقديم تبرعاتهم عبر استقطاعٍ شهري من رواتبهم، بل لقد بلغت نسبة من شارك في التبرع من موظفي الشركة 77% من مجموع القوى العاملة بالشركة! وتنوعت المستويات الإدارية للمتبرعين، ومنهم الميكانيكي كين مابري، الذي يتذكر تلك الأيام بكثير من التعجب، ويقول: إنني لم أتصور أن أستقطع يوما ما جزءا من راتبي ليعود للشركة التي أعمل بها!! ولكن هذا الأمر لم يحدث له وحده فقط، بل تحوّل الأمر إلى كرة ثلج تكبر يوما بعد يوم.
صحيح أن موظفي الشركة قدموا الكثير من أموالهم وأوقاتهم لهذه المبادرة الرائعة، لكن قصة وفائهم كانت سببا لأن ينتشر هذا الهوس خارج الشركة، فخلال أسابيع قليلة تدفق سيل من التبرعات من متقاعدي الشركة، ثم من جمهور زبائنها، حتى وصل الأمر إلى أن أرسل الرئيس الأميركي آنذاك رولاند ريجان مساهتمه البالغة عشرة آلاف دولار، لشراء إطارات وزجاج الطائرة تحديدا. أما أكثر اللحظات تجليا فلقد كانت عندما وصل تبرع الطفل آدم بييبر، الذي أرسل من ملجأ الأيتام الذي يقطنه بضع قطع معدنية، لتقوم الشركة بدعوته إلى مقرها الرئيس، ويقوم الطفل اليتيم بعد النقود جنبا إلى جنب مع رئيس الشركة السيد ديفيد جاريت.
ورغم أن الأمر تطلب أشهر وليس عدة أسابيع كما توقعت المضيفات؛ إلا أنهم في النهاية حققوا هدفهم المنشود، وبمشاركة واسعة النطاق، فضلا عن تحسن الصورة الذهنية للخطوط لدى زبائنها، والأهم لدى منسوبيها على كافة المستويات، وفي الخامس عشر من ديسمبر 1982 وبحضور سبعة آلاف شخص في مركز العمليات الرئيسة للشركة في مطار مدينة أتلانتا بولاية جورجيا؛ دشنت الطائرة الحلم.. الطائرة التي قدمها موظفو الشركة إلى شركتهم بالمجان، والتي اتفق الجميع على إطلاق مسمى خاص لها، هو: روح الدلتا Spirit of Delta، وكان الطفل أدم هو من قص شريط الطائرة، التي اتشحت باثنين وسبعين رطلا من الشريط الأحمر الفاخر، كان قد تبرع به رجل أعمال محلي، وكانت اللحظة الوحيدة التي شوهد فيها الرئيس الأسطوري للشركة يغالب دموعه، لأنها كانت تمثل اللحظة التي تفوق فيها كرم موظفي شركته مع شركتهم على حد قوله.
خدمت طائرة روح الدلتا 23 عاما متواصلة، وقطعت 70 ألف ساعة طيران على خطوط متنوعة، وشاركت في استعراضات جوية، واحتفالية الألعاب الأولمبية عام 1996 في مدينة أتلانتا، مسقط رأس طيران الدلتا، كما كانت أيقونة احتفالية الشركة بمرور خمسة وسبعين عاما على تأسيسها.
وها هي الطائرة الحلم ومقتنيات طاقمها تربض وسط متحف تاريخ طيران الدلتا، شاهدة على أن الاستثمار الصحيح في موظفي الشركة، سوف يعود بالنفع عليها في نهاية الأمر، وها هي الشركة مستمرة في تقدير أهم أصولها وهو الموظف، بتكريم أفضل مئة موظف يتم ترشيحهم من زملائهم وليس من مديريهم! ليتم سنويا تنظيم حفل تكريم باذخ على شرف هؤلاء المئة من بين ثمانين ألف موظف بالشركة، كما تطبع أسماؤهم على أبواب طائرات الشركة، وغيرها من الأفكار المبتكرة التي تزيد من قيمة الموظف، واحترامه لنفسه، وحبه لمؤسسته. وفي النهاية صورة مع التحية لشركاتنا السعودية.