في المملكة لا يزال مفهوم طهو الطعام بعيدا عن بعده الفلسفي، فالأمر ليس مجرد ملء المعدة بما لذ وطاب، بل الطعام مدخل ثقافي واجتماعي مهم، خصوصا حين التعرف على أطباق مطابخ عالمية
ما إن أعلن أبو عبدالله انتهاء طبخه لغدائنا المتأخر في تلك النزهة البرّية، حتى وجدنا أنفسنا متسمرين أمام طبقٍ لا يمكن أن يقاوم من الخيرات، فقد كانت القطع الناضجة من لحم الضأن الطازج تتوسد أرز الكبسة السعودية الفاخرة، والتي تزينت بإضافات شهيّة من الخضراوات الموسمية من كوسة وبطاطس محلية، لتكتمل الصورة بأن نثر عليها شيفنا السعودي بضع قطعٍ من مكسرات متنوعة وطماطم مكتنزة وبصلٍ أبيض كما التفاح.. وهكذا بعد البسملة كاد الجميع يلعق أصابعه من لذة ما أكل من طعام..
لا أعتقد أن أحداً ما لا يزال يجادل بضرورة قصر مهنة الطهو على النساء فقط، فلقد تميز الرجال على النساء بشكل يثير الإعجاب والغيرة في آن واحد في مهنة الطهو، واستطاعت الأجيال الجديدة من الشباب أن تتغلب على النظرة الاجتماعية القاصرة وتقتحم أسوار الطبخ، لتمارس شغفها في الطهو، وتستفيد من أقصى ما تقدمه حواسها.. ولعل جولة سريعة على برامج الطهو التلفزيونية أو كتب الطبخ لتؤكد أن المهنة رجالية بامتياز، وليس كما يعتقد ويؤمن البعض!
هنا في المملكة لا يزال مفهوم طهو الطعام بعيداً عن بعده الفلسفي، فالأمر ليس مجرد ملء المعدة بما لذ وطاب، بل الطعام مدخل ثقافي واجتماعي مهم، خصوصًا حين التعرف على أطباق مطابخ عالمية، والتبحّر فيما وراء الطبق نفسه ومكوناته على المستوى الثقافي، وعلى مستوى التذوق بالحواس الخمس، وليس فقط التذوق باللسان، فخوض غمار تجربة مطعم مختلف؛ إنما هو في نهاية الأمر فرصة خاطفة للتعرف على مجتمع آخر، كما يحدث حين تتناول طعاماً يابانياً لم تذقه من قبل، كلفائف السوشي مثلاً، فأنت تصبح على شفا التعرف بشكل أفضل على المجتمع الياباني، واعتماده على الأطباق البحرية والأرز بشكل أساسي، أو تناول شيء من كباب المطبخ الأرمني، الذي يتميز عمّا سواه من كباب بطعمه المالح والحرّيف، نظراً لتأثر أرمينيا كدولة بالتغيرات المناخية القاسية، مما جعل الأطباق الأرمنية متطرفةً في مذاقها، وهكذا دوليك يمكن تطبيق هذا الحديث عن مجمل أطباق المطاعم الإثنية. من جهة أخرى استطاع بعض الطهاة الأسطوريين أن يقدموا تراث وثقافة شعوبهم بواسطة أطباقهم اللذيذة، مثل الشيف الياباني مساهارو موريموتو، أو الدنماركي رينيه ريدشبي، الذي فاز بلقب أفضل طهاة العالم قبل عامين.
طبعاً نحن لانزال في المملكة بعيدين جداً عن تطوير مطبخنا المحلي، على الرغم من تباعد أجزاء بلادنا، واحتواء تراثنا المحلي على الكثير والغريب من الأطباق، التي يمكن أن نصل بها نحو العالمية بكل سهولة، ولكن بعد قليلٍ من التعديلات، وإدخال روح العصر عليها، لكن إحدى مشاكلنا الحالية أن جمهور الوافدين لا يزالون يسطيرون على مجمل صناعة المطاعم في المملكة، ويقدمونها – للأسف- في أبشع صورها، كما يستمرون في مسلسل الطهو السيئ لأطباقنا المحلية التراثية، فهم في نهاية المطاف ليسوا سعوديين وليسوا طهاةً في الأساس.
وأعتقد جازماً أن طهاتنا من الشباب السعوديين، هم القادرون على تطوير أطباق مطبخنا السعودي، والسفر بها نحو العالمية، لكن التوجس من نظرة المجتمع السلبية للطاهي الرجل؛ وأن الطبخ محصور فقط بالفتيات، وغياب الدعم المؤسسي، يجعل الكثيرين من الموهوبين الشباب يتراجعون عن تحقيق حلمهم في ممارسة الطبخ، أو على الأقل قيادة فريق الطهو في مطعم أحدهم الخاص، لكن كل ذلك لم يمنع الشاب السعودي المبدع غسان حيدري من ملاحقة شغفه بالطهو، وأن يتنازل عن بعثته الخارجية لدراسة الهندسة الطبية في كندا، ليتحول لدراسة الطبخ في أحد المعاهد الكندية المتخصصة في فنون الطهو، وليحتل مراتب متقدمة في مسابقات الطبخ هناك، إحداها لطبقه المبتكر لافا كيك التمر والقادم من عمق مجتمعنا السعودي!
أما صديقنا الآخر: سامي الموسى فلقد بدأ هوايته في الطهو مبكراً، أي منذ ربيعه الرابع عشر، ليصبح الطاهي الأفضل على مستوى عائلته وأصدقائه، ثم ليبتكر طبقه السعودي: فنجايل البطاطس، والأجمل من ذلك أنه يمارس عرض إبداعه بشكل شبه يومي في توتير، ويرد بكل أريحية على استفسارات جمهوره ومتابعيه، خصوصًا من يسأل عن أطباق الحمية التي تميز بها طاهينا السعودي.
نحن بحاجة إلى معاهد طبخ متخصصة، وليس مجرد دورات تجارية متفرقة تقيمها بعض الجمعيات الخيرية أو الشركات التجارية، وأن يستقطب لهذه المعاهد أفضل العقول وأمهر الطهاة من مختلف أنحاء العالم، فمطبخنا السعودي لم يكتشف بعد، وهو مليء بالأطباق المتنوعة والمختلفة، والتي يمكن أن تكون إحدى وسائل تسويق المملكة في الخارج، أو ليس من الرائع أن تصادف في الخارج مطمعاً يعتمد الطبخ السعودي Saudi Cuisine صفة له، كما نرى المطاعم المصرية أو الشامية، ونحن الأولى اعتماداً على غني مطبخنا المحلي، من العريكة والحنيذ جنوباً، إلى المجبوس والمفلّق شرقاً، مروراً بالصيادية والفرموزة غرباً، والقرصان والجريس نجدياً...أنها أحلام جميلة، لكنها لذيذة ومغذية في نهاية الأمر.