ليس من شيم العقل الأخلاقي التفرد بصيغة فكرية واحدة، وفرضها على الكل بغية تكوين نسق اجتماعي يعتمد نقطة التعايش هدفاً أساسياً لبنيته وتركيبته
في الوقت الذي يمثل فيه العقل الحقيقة الفصل لتقييم وتصنيف الإنسان بكينونته وماهيته، ويضعه تاريخياً وطبيعياً على رأس هرم الموجودات الكونية بأسرها –على افتراض أنه أذكى المخلوقات المعروفة-، إلا أن المفارقة العظيمة تأتي من عمق المخلوق الأذكى نفسه (الإنسان) حامل العقل، وممارساته المُنكرة للقيمة النوعية التي يمثلها له العقل كفارق مهم لا جدال فيه، متخذاً من (نسبية العقل) حجة كافية لتقييده، بل ويذهب إلى حد إلغائه أحياناً! وهذا مروق خطير عن المنطق، فالإنسان بوصفه الأذكى نتيجة لتفرده بامتلاك العقل، وبغير ذلك سيتراجع في الترتيب إلى منزلة الكائنات غير العاقلة.
هذا المدخل إلى تفسير العلاقة الوثيقة بين العقل والأخلاق هو في الواقع محاولة لاقتناص مساحة افتراضية تهتم بالمقومات الأساسية بين الإنسان وواقعه. وتأمُّلٌ قد يوصلنا إلى طريقة رأب الصدع الأخلاقي بين الإنساني وبين المتغيرات التي تفرض عليه أحياناً المروق الأخلاقي على الإنسان نفسه. فحقيقة الإنسان الأخلاقية غير قائمة على فرضيات بقدر انطلاقها من أرضية صلبة للشروط الأخلاقية، وهي صارمة فيما يخص ذلك.
في الشعر قال شوقي: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت.. فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا، وهذا مبدأ رائع وقول سديد لوصف الحالة الأخلاقية وقيمتها على صعيد وجود الكيان وما يترتب عليه.
ويصنف علم النفس السلوكي (السيكولوجيا) علاقة (العقل- الأخلاق) كمحور رئيس في المكون الكلي للشخصية الإنسانية وترتيبها، ويضعها في مرتبة متقدمة لها ثقلها وتأثيرها النوعي في تشكيل آلية التواصل ونوعيتها مع الآخر، وصميم المنطلقات لتلك العلاقة ومحورها الأول هو العقل، ونتائجه بكل أشكالها كانت على الدوام هي أصل وروح الصورة للحدث. فالحضارات الإنسانية على امتداد تاريخها لم تخرج عن ما تمخض من أطروحة الحوار الأزلي بين العقل والأخلاق، وقد كان لقرارات حضور العقل ببعده الأخلاقي اليد الطولى في بناء أنساق الأحداث السلمية ولحظاتها التاريخية، وكان وراء ارتقاء المعرفة الإنسانية الخلاقة ووعيها. في الوقت الذي أدى فيه غياب العقل بسموه الأخلاقي إلى ظهور العدوانية واستبدادها واستشرائها بهمجيتها المقيتة المختلفة. لقد كان لتغييب العقل أكبر الأثر في انهيار منظومات عديدة من الحضارات الإنسانية وتدميرها، متسبباً باندثار جزء كبير من الذاكرة الإنسانية.
فالعقل بشقي تكوينه المفترضة (الوعي والمعرفة) يُعد جدلياً كونه باحثا عن الحقيقة التي تصطدم دائماً مع إشكالات التطبيق. فالعقل بقدراته الهائلة يرفض بطبيعته تحجيمه وتحييده حتى وإن كان في بعض جوانبه نسبياً. والمتذرعون بحجة (نسبية العقل) ومحاولة إقصائه على نحوٍ ما، إنما ينكرون على الإنسانية في الواقع فرصة استثماره بالشكل الأمثل لبناء المنجز الحضاري، ويحاولون بتحركهم في (منطقة اللاوعي) تشويه نواتج حضارة العقل الأخلاقي، من خلال الميل إلى لغة اتصالية أحادية مبتورة وفق إيديولوجيا منحازة تتفق مع ميول بعينه، قد تكون في ظاهرها مُتزنة وسوية حسب ما ترفعه من شعارات. غير أن في ذلك خروجا عن جادة العقل الجمعي وأخلاقياته، ونشوزا عن سلوكيات الوعي الإنساني ونداءات الديناميكية الاجتماعية، إذ ليس من شيم العقل الأخلاقي التفرد بصيغة فكرية واحدة، وفرضها على الكل بغية تكوين نسق اجتماعي يعتمد نقطة التعايش هدفاً أساسياً لبنيته وتركيبته.
لقد فشلت تاريخياً كل المحاولات الساعية إلى تأطير جموح العقل وتحييده، والأخذ بالأطروحات الميتافيزيقية (الماورائية) كأساس أولي قبل العقل لتفسير الظواهر الطبيعية، أو تلك التي لم يجد لها الإنسان تفسيراً في فترة زمنية ما. لكنه مع مرور الزمن أدرك أن للعقل قيمته النوعية في وضع كثير من الأمور على مقربة من ماهيتها وحقيقتها، قاطعاً بذلك جزءا مهماً من الطريق نحو النضوج الفكري الأخلاقي الواعي بمكنون المكونات وتراكيبها، ومن ذلك نجاحه في فهم الأنساق الاجتماعية وحاجتها إلى لغة اتصالية جامعة، وضرورة إيجاد الصيغ الكفيلة بقبول توجهاتها وفهم ما هي عليه، والبحث الدائم عن الحلول والبدائل الكفيلة بحفظ توازن مُقنع، يضمن استمرارية كل الأطروحات والجدليات وفق شروط ترتضيها كل الأطراف. وهذا أساس لقيام حضارات ذات طابع إنساني مستمر ومتنام، فالبناء الذهني حتى في حال اندثار أصله تبقى آثاره مستمرة. وهو ما يدحض صلف المنادين بالحضارة العالمية الأممية الواحدة، فالعقل لن يقبل فكرة القيمة الأحادية لتشكيل كيان فكري أوحد منحاز، لكن مثل هذه الأطروحات تليق بالروبوتات والآلات وليس الإنسان قطعاً.